تحقيقات وتقارير

وداعاً “أم القضاء السوداني” سحبت إحسان فخري طلبها من كلية الطب لدراسة القانون فسجلت اسمها بأحرف من نور كرائدة في الوطن العربي والسودان

للمرأة السودانية الريادة والسبق في الكثير من المجالات عبر مختلف الحقب التاريخية، حيث استطاعت أن تحجز لها مقعدًا بين رصيفاتها من النساء من دول مختلفة منذ وقت مبكر فوضعت بصماتها في مجالات متعددة في التعليم والطب والقانون، والذي استطاعت المرأة السودانية أن تحقق فيه الكثير وترفع اسم السودان عاليًا في مختلف المحافل الدولية.
قبل يومين وفي فجر الخميس غيب الموت إحدى الأعلام النسائية التي رفرفت عاليا في مجال القضاة. ويحفظ التاريخ إسم إحسان محمد فخري بوصفها أول قاضية سودانية، وأول قاضية في المنطقة العربية، وكذلك أول طالبة تلتحق بكلية القانون بجامعة الخرطوم.
في العام 2013م قمت بتسجيل زيارة لمولانا إحسان فخري بمنزلهم الكائن في الخرطوم بحري بحلة حمد.. قابلتني بكل حفاوة وأجريت معها حوارا صحفيا سردت لي فيه مسيرتها الحافلة بالإنجازات والتميُّز في مجال القضاء بصحبة زوجها وزميل دراستها ومهنتها القانوني صالح عوض صالح. كنت دائما ما أتصل بمولانا صالح زوجها متفقدة لصحتها التي تدهورت في الفترة الأخيرة قبل وفاتها بأشهر عدة حيث لازمت السرير الأبيض فترة من الزمن إلى أن أسلمت روحها لبارئها فجر الخميس الماضي.
أول طالبة قانون
مولانا إحسان محمد فخري من مواليد عام (1938م) التحقتُ بكلية القانون جامعة الخرطوم في عام (1956م) وكانت أول طالبة تلتحق بها، وبعد تخرجها في الجامعة التحقتُ بمكتب تدوين القوانين بجامعة الخرطوم ثم عملتُ بمكتب الهيئة القضائيَّة في المجلة القضائيَّة.
تسرد الراحلة حكايتها وقصة دخولها مجال القانون بقولها: عندما كنتُ في زيارة لشقيقي المرحوم إبراهيم فخري كان مسجِّلاً لمحكمة المديريَّة في ودمدني وقابلتُ قاضي المديريَّة عبد الرحمن النور وطلب مني أن أتخصَّص في محاكم الأحداث، وقال لي نحتاج لقاضية سودانية، وبعد رجوعي من هناك سحبتُ طلبي من كليَّة الطب بجامعة الخرطوم، وقدَّمت لكلية القانون.
لاحقاً رحَّبت أسرة مولانا إحسان بفكرة دخولها لمجال القانون لأن شقيقها الأكبر عمل في هذا المجال، وهو الذي أشرف على تعليمها لأن والدها توفي باكرًا.
وتنحدر الراحلة من أسرة عريقة، فوالدها المرحوم محمد فخري كان رجل علم ودين يعمل ملاحظ مساحة بمصلحة الوابورات وكان إمام الجامع الكبير وكان أحد القائمين على تاسيسه بالخرطوم بحري وأخوها الأكبر إبراهيم فخري كان مسجل الأراضي وحسين فخري كان ضمن أول دفعة سودانية تحصل على رخصة طيران من إنجلترا فكان أول مدير للطيران المدني وأول مدير لمطار الخرطوم حين رفع علم اﻻستقلال، يليهم عمر فخري مهندس في الوابورات وعبد الحليم فخري الذي كان مدير مطار بورتسودان والدكتور يوسف فخري هرم في الطب في مدينة القضارف وأصغر إخوانها عبد الحميد فخري كان موظفا بالتلفونات.
هيئة المظالم والحسبة
داخل جامعة الخرطوم حيث كانت أول طالبة تلتحق بكلية القانون وجدت كل احترام وتقدير من الأساتذة والزملاء في الدراسة، وقد كان عميد الكلية بريطانيًا أمَّا الأساتذة فكانوا من المصريين والسودانيين وبعض الإنجليز حيث التدريس باللغة الإنجليزية.
وداخل قاعات المحاكم عملت مولانا إحسان قاضية لمدة (30) سنة وكانت محكمة الأحداث هي أول محكمة تعمل بها، لأنها كانت المحكمة الوحيدة في أم درمان، وبعدها تم إنشاء محاكم أحداث في الخرطوم والخرطوم بحري وود مدني.. ومحكمة الأحداث هي محكمة جنائيَّة وليست مدنيَّة، ويُرسل أصحاب العقوبات منها للإصلاحيات..
تدرَّجت مولانا إحسان في العمل القضائي من قاضٍ درجة ثانية وقاضٍ درجة أولى ثم قاضي مديرية حتى وصلت لدرجة قاضى محكمة استئناف، وبعدها لم يتم تعيين قاضيات بمحمكة الاستئناف إلا بعد سبع سنوات حسب حديثها لي، وقد عملت في محاكم مختلفة.
وقدَّمت مولانا إحسان أوراقًا كثيرة عن محاكم الأحداث والتعديلات في القوانين لجامعة الخرطوم وكتبت في العديد من المجلات.
عملت بهيئة الحسبة والمظالم وهي أعلى سلطة لمدة خمس سنوات وطلب منها التجديد لدورة ثانية وفضَّلت أن تتفرَّغ للمنزل.. وبعدها عملت في لجان مختلفة.
القضاء في إنجلترا
سافرت مولانا إحسان لتحضير رسالة الماجستير بإنجلترا لمدة سنتين في مجال القوانين المدنيَّة، درسنا الشريعة باللغة الإنجليزيَّة ودرستنا لها –كما تقول- دكتورة هتشكلف، ومن الطريف الذي لا تنساه إحسان إبان روايتها عن تلك الأيام، أن دكتورة هتشكلف عندما تذهب في زيارة لأي دولة عربيَّة تُهدى لها مجموعة من الأساور الذهبية وعندما ترفع يدها إلى السبورة وتكتب تُحدث أساورها صوتًا مسموعًا وهي مبسوطة من الهدايا التي تُهدى لها.. وقد رافقها زوجها في سفرها لممارسة مهنة القضاء بين إنجلترا والسودان.
وتقول مولانا إحسان عن القضاة في إنجلترا: القاضي في إنجلترا يظهر ومعه مجموعة كبيرة من القانونيين ويُشركهم معه في تقديم القضايا ولا يعطى سلطة كافية، ويتم تعيين القاضي بعد وصوله لسن كبيرة على عكس السودان، وتقول مولانا إحسان: قابلونا بدهشة واستغراب كقضاة صغار في السن وكانوا يحترموننا ويضعون لنا اعتبارًا. وقد أجري معها التلفزيون في لندن لقاءات كقاضية سودانيَّة، وفي مأدبة عشاء دعيت لها إليها وضعوا الكرسي الذي كانت تجلس عليه بالقرب من كرسي لوردينق رئيس القضاء في إنجلترا، أيضًا عندما سافرت لأمريكا في فترة قصيرة أجرى التلفزيون الأمريكي معها عدة لقاءات.
تسببت في تعيين المرأة المصرية
إحسان قدمت لها السيدة الاولي بمصر جيهان السادات دعوة لزيارة القاهرة ومعها زميلات منهنَّ نفيسة الأمين، وتقول مولانا إحسان: ناقشنا معها عدم سماحهم للمرأة المصرية بالعمل في مجال القضاء، وقلت لها إننا في السودان لدينا الكثير من القاضيات، وفي اليوم الثاني من الزيارة ومن لقائنا بالسيدة جيهان تناولت الصحافة المصريَّة الخبر وتصدَّر صفحاتها وهو (القاضية السودانية تحث الرئيس على تعيين النساء في القضاء)، وتسبَّب حديثنا في تعيين المرأة المصرية في القضاء ولكن يُطلق عليهنَّ في مصر لقب مستشارات.
تكريم من رئاسة الجمهورية
تزوجت مولانا إحسان من القانوني صالح عوض صالح وهو زميلها في الدراسة بكلية القانون وعمل مستشارًا قانونيًا في ديوان النائب العام تزوجت في عام 1965م وقد كانت مولانا إحسان تلجا إليه في بعض القضايا وتتشاور معه فيها كما ذكر لنا..
أمَّا بالنسبة لرغبات أبنائهم فقالت: لم نتدخل فيها ولم نشجعهم على دراسة القانون لأن المحاماة والقضاء مسؤولية كبيرة ـ على حد قولها ـ حيث درس أبناؤها تخصصات مختلفة، وهم: أميرة اختصاصية نساء وتوليد بإنجلترا، وأمير مهندس تخرج في جامعة الخرطوم، وأمل باحثة اجتماعيَّة تتبع لهيئة الأمم المتحدة، وسارة طبيبة صيدلانيَّة بإنجلترا وكلهم لديهم درجات علمية فوق الجامعية.
كرَّمتها رئاسة الجمهوريَّة ممثلة في الأستاذتين رجاء حسن خليفة وأميرة الفاضل ومعها الأستاذة نفيسة الأمين في يوم المرأة العالمي، كما كرمتها هيئة الأمم المتحدة عام (1980م) كأول قاضية سودانيَّة.
ووري جثمان مولانا إحسان فخري الطاهر الثري بمقابر حلة حمد حيث نشأتها، صبيحة يوم الخميس الماضي في حشد كبير تقدمه وزير العدل.

اليوم التالي