فتح الحدود مع دولة الجنوب..صديق البادي
أعلن السيد رئيس الجمهورية فتح الحدود بين جمهورية السودان ودولة جنوب السودان التي انفصلت في عام 2011م، وأضحت دولة قائمة بذاتها بعد إجراء استفتاء أجمع فيه الجنوبيون بأغلبية كاسحة ساحقة على اختيار الانفصال وهذا هو خيارهم الذي ينبغي احترامه ولا يمكن لأحد أن يفرض عليهم خياراً لا يرتضونه. وهناك نماذج لدول أخرى انفصلت قبل ذلك مثل باكستان التي انفصلت عن الهند ومثل بنغلاديش التي انفصلت بعد ذلك عن باكستان. وان كوريا انقسمت لدولتين هما كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، وان إريتريا انفصلت عن اثيوبيا … والخ. وان الحديث الكثير عن الوحدة الجاذبة في العام الذي سبق عملية الاستفتاء وما انفق من أموال طائلة مقرونة بذلك الشعار ثبت أنها كانت مجرد طلاء خادع والمتأمل في اتفاقية نيفاشا يدرك بلا كثير عناء أنها أعطت الجنوب حكماً ذاتياً انتقالياً في الفترة الممتدة بين عامي 2005ــ 2011م تمهيداً للانفصال. وأن الفريق سلفا كير ميارديت النائب الأول لرئيس الجمهورية كان برتكولياً هو المسؤول الثاني في الدولة ولكنه لم يعر قضايا الشمال بما فيها جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق مثقال ذرة من اهتمامه، وكان كل تركيزه علي الجنوب باعتباره رئيس الحكومة هناك وكانت كل قيادات الحركة الشعبية تعمل بذات المنوال وأقاموا مكاتب للحركة في بعض العواصم الخارجية تمهيداً لقيام سفارات في تلك الدول بعد إعلان الانفصال. وسعوا لتدريب كوادرهم وعندما أُجري الاستفتاء وأُعلن الانفصال كانوا مستعدين ومهيأين لذلك. وقبل إجراء المفاوضات في كينيا وإعلان اتفاقية نيفاشا التي منحت الحركة الشعبية والجنوبيين حكم الجنوب مع إشراك الحركة الشعبية في حكم الشمال على المستوى الاتحادي والولائي، كان عدد الشماليين المنضوين في الحركة الشعبية ضئيلاً ولكن بعد توقيع اتفاقية نيفاشا وما تبعها من سلطة وجاه انضم للحركة الشعبية لأول مرة شماليون آخرون. وان الفريق سلفا كير كما هو معروف كان من غلاة الراغبين في الانفصال وسعى لتطبيق ذلك عملياً دون ثرثرة وتصريحات كثيرة حول هذه المسألة، ويبدو جلياً ان الحديث عن سودان جديد علماني لم يكن يعنيه في شيء وقبل اعلان الانفصال ميز قادة الحركة الشعبية الشماليين المنضوين للحركة وأطلقوا عليهم اسم قطاع الشمال، وفي مرحلة لاحقة اتخذوهم شوكة حوت ضد وطنهم وكانوا حريصين علي إبقاء الفرقتين الشماليتين التاسعة والعاشرة في جيش الحركة الشعبية لتستمرا بعد الانفصال تابعتين للقيادة العامة لجيش الحركة في جوبا!!! ومن جانبها أرادت القلة المتنفذة في قطاع الشمال ان تستند إلى حكومة الجنوب وعلى قيادة الحركة الشعبية في جوبا وبدعم من الخواجات لتوقع معهم الحكومة السودانية اتفاقية مماثلة لاتفاقية نيفاشا تتيح لهم اقتسام السلطة معها مع رفضهم تسجيل حزب كسائر الأحزاب الأخرى لإدراكهم ان صناديق الاقتراع ستخذلهم لان وزنهم الجماهيري وسط القواعد العريضة كوزن الريشة.
وقد سن الاستعمار قانون المناطق المقفولة وأقام حاجزاً بين الشمال والجنوب وأدخل في نفوس الجنوبيين كراهية «المندكورو» بلا سبب. وحرم الاستعمار الجنوبيين من التعليم إلا في حدود ضيقة بإدخال أعداد قليلة منهم في مدارس تابعة للكنائس وتأهيلهم لاداء بعض الوظائف الصغيرة وبسبب الاستعمار وظلمه للجنوبيين لم تكن للجنوبيين قيادات عليا أو وسيطة تذكر في الخدمة المدنية تؤهلهم لاعتلاء وظائف مرموقة في عملية الإحلال والأبدال التي تمت بعد السودنة. وفي زمن الاستعمار كان عدد كبير من الجنوبيين عراة الأجساد وانتهكت انسانيتهم واضطهدوا والصور الفوتوغرافية موجودة وتؤكد ان عدداً من مفتشي المراكز البريطانيين كان الواحد منهم يجلس على كرسيه ويضع غليونه على طرف فمه ويحمله أربعة من الجنوبيين على أكتافهم، وهو جالس على الكرسي وفي هذا قمة الصلف والعنجهية وانتهاك حقوق الانسان. وفي عام 1947م عقد مؤتمر جوبا لتقرير مصير الجنوب وبإيعاز وتوجيه من روبرتسون السكرتير الاداري قرر ممثلو الجنوبيين في المؤتمر اختيار الوحدة مع الشمال ولم يفعل روبرتسون ذلك حباً في الشمال والشماليين والسودان والسودانيين، ولكنه كان يدرك ان الجنوب في ذلك الوقت لا يملك مقومات قيام دولة قائمة بذاتها فيه وان ضمه ليوغندا أو كينيا فيه مخاطر كثيرة إذ يسهل التداخل بين بعض القبائل الاستوائية وبين بعض القبائل التي تعتبر امتدادات لها في تلك الدول، ولكن يتوقع ان يحدث صراع دموي حاد بين القبائل الاستوائية والقبائل النيلية في جنوب القطر ولذلك فضل روبرتسون ان يكون الجنوب جزءًا من السودان وترك قنبلة زمنية انفجرت في التمرد الذي حدث بتوريت في أغسطس عام 1955م أعقبته حرب بين الجنوب والشمال امتدت لمدة خمسين عاماً تخللتها سنوات سلام أعقبت اتفاقية نيفاشا عام 1972م وفي عام 1983م استؤنفت الحرب الاستنزافية مرة أخرى. ومن المفارقات العجيبة ان روبرتسون الذي نقل من السودان وعين حاكماً عاماً لنيجيريا ترك بعد انتهاء فترة عمله هناك قنبلة زمنية بين الشمال والجنوب انفجرت في عام 1966م بانفصال بيافرا الذي استمر عدة سنوات.
لقد اضطهد الاستعمار الجنوبيين وأذل انسانيتهم بمعاملته الفظة لهم وحرمهم من التعليم وجعلهم يمشون عراة، ولكن الحكم الوطني هو الذي أعزهم وأكرمهم وعندما عين الأستاذ عبد الرحمن علي طه وزيراً للمعارف في عام 1948م بعد تكوين الجمعية التشريعية، أولي التعليم في الجنوب اهتماماً بالغاً وتم نقل الأستاذ سر الختم الخليفة من معهد التربية ببخت الرضا وعين مسؤولاً عن التعليم بالجنوب وافتتحت وزارة المعارف مدارس أولية كثيرة وتبعها قيام مدارس وسطى وأسست مدرسة رمبيك الثانوية ومعهد مريدي وهو أحد فروع معهد بخت الرضا. وفي عهد الحكم الوطني نال جنوبيون كثيرون حظاً وافراً من التعليم العام والجامعي وما فوق الجامعي في مختلف التخصصات ومنهم بروفسيرات وحملة دكتوراه.
وبعد اندلاع التمرد في الجنوب للمرة الثانية في عام 1983م نزح الملايين من الجنوبيين واستقروا بالعاصمة وفي مناطق ومدن أخرى وتعامل معهم الشماليون تعاملاً طيباً راقياً وقدروا ظروفهم واقتسموا معهم جرعة الماء والدواء ولقمة الخبز والمقعد في فصول الدراسة وفي المركبات العامة وفي الأسواق والمقاهي والمطاعم العامة، ونالوا حقوق المواطنة كاملة غير منقوصة بممارستهم لعاداتهم وتقاليدهم واحتكامهم لسلاطينهم في كافة قضاياهم التي يتم الفصل فيها وفق أعرافهم. وتناسلوا وتكاثروا وعاشوا حياتهم الطبيعية. وشهدوا تسامحاً دينياً ليس له مثيل وعندما زار بابا الفاتيكان السودان في عام 1992م كان المسيحيون الجنوبيون في مقدمة مستقبليه وكان ذلك اليوم عيداً سعيداً بالنسبة لهم لبسوا فيه احسن حللهم بألوانها الزاهية والصارخة ودقوا الدفوف وغنوا ورقصوا وابتهجوا، وأكد هذا بجلاء انهم ظلوا يمارسون حريتهم بالكامل دون حجر عليهم وظلت الكنائس تكتظ بهم وتدعمهم. وقد أضاع المسلمون فرصة ذهبية وفي إطار حرية الدعوة كان يمكنهم إذا بذلوا وأنفقوا أكثر من الكنائس ان يدخلوهم كلهم أو جلهم في الإسلام ولكن «الصيف ضيعت اللبن»، ولم يشكل الدين هاجساً أو حاجزاً للجنوبيين ولم يشتكوا في أي يوم من الأيام من أي اضطهاد ديني ولكن الأقليات الشمالية التي تنادي بفصل الدين عن الدولة وعلمنتها يدركون انهم يسبحون ضد التيار ويمثلون أقليات لن تحصل على شيء يذكر في أي انتخابات عامة بعد طرح برامجها ورؤاها، ولذلك فان هذه الأقليات اتخذت من الجنوبيين ستاراً وتحدثت باسمهم وملأت الدنيا ضجيجاً وعجيجاً قبل الانفصال وطالبوا بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية في العاصمة بادعاء انها مشتركة بينهم وأسقط في أيدي هؤلاء إذ ليس باستطاعتهم بعد الانفصال اتخاذ الجنوبيين سواتر لهم في الشمال!! ومنذ طفولتنا كنا نردد في المدرسة الأولية «منقو قل لا عاش من يفصلنا» ولكن لسان حال الجنوبيين الذين آثروا الانفصال يردد «منقو قل لا عاش من يوحدنا ويجمعنا» وبمحض إرادتهم انفصلوا عن الشمال. وبعد الانفصال مباشرة سعوا لشن حرب اقتصادية ضد الشمال ولعبوا دوراً كبيراً في رفع سعر الدولار وجمعوا كل حركات التمرد الحاملة للسلاح بتنسيق قامت به القلة المتنفذة في قطاع الشمال لتشن حملات ضد السودان وحاربت الدولة الوليدة الجديدة الدولة الأم، ونأمل ان تطوى تلك الصفحة ويفتح البلدان المتجاوران صفحة جديدة.
وإن دولة الجنوب تشهد صراعات لا حصر لها واذا أُجريت أي انتخابات عامة فانها ربما تؤدي لتفجير حرب اهلية لا تبقي ولا تذر، ولكن من مصلحة السودان ان تكون دولة الجنوب مستقرة وقد عاد جنوبيون كثيرون للشمال وتشهد الأسواق في العاصمة وغيرها وجوداً كثيفاً لهم وهم في حالة استرخاء وانس والآن وبعد أن فتحت الحدود فالمتوقع أن يكون عدد الجنوبيين في جمهورية السودان أكثر من الجنوبيين المستقرين بدولة الجنوب في وقت يشهد فيه السودان ارتفاعاً جنونياً في الاسعار وأزمات في الغاز والخبز … والخ. وان العام المالي الجديد قد مضى عليه شهر واحد ولا ندري كيف تكون الأوضاع المالية بعد مضي عدة أشهر، وهل تتطابق الإيرادات الحقيقة مع التقديرات أم لا، والمؤكد ان السودان لم يجد الدعم المطلوب في السيولة النقدية والعملات الصعبة، ولكن وعد خيراً بتنفيذ مشاريع هامة رصدت لها ميزانيات مقدرة وبشروط ميسرة. أما الدعم المالي المباشر فنأمل أن يتم. وفي ظل هذه الظروف التي يمر بها السودان يتدفق الجنوبيون عليه هروباً من واقعهم المزري والمطلوب منهم احترام القوانين وعدم الإخلال بالأمن وعدم التدخل في المسائل السيادية مع تقدير الجميع لظروفهم الإنسانية «والفقرا اتقسموا النبقة».
وقد رحبت دول الغرب بفتح الحدود بين البلدين ولكن اثبتت التجارب أنها تبدي سرورها في مثل هذه المواقف وتقف بعد ذلك مكتوفة الأيدي وبعد توقيع اتفاقية نيفاشا أعلنت عن سعادتها بها وعقدت الدول الغربية مؤتمر اوسلو للمناحين، ولكن اتضح بعد ذلك انها اكذوبة كبرى ولم يقدموا شيئاً يذكر وبدلاً من ذلك أشعلوا نار الفتنة في دارفور وأخذ إعلامهم الأخطبوطي يلعلع بها صباح مساء حتى كف عن ذلك عندما ادرك أنه يردد أباطيل واكتفى بإثارة الفتن دون إعلام صاخب. والآن هل نشهد تغييراً في مواقف «الخواجات» أم أن أية مرونة يقابلونها بمزيد من الصلف، ولن يرضوا إلا إذا أمسكوا بالرسن ووجهوا السودان في الوجهة التي يشتهون بتغيير النظام أو إيجاد نسخة منقحة جديدة منه؟
ونأمل أن يشهد البلدان الجاران السودان وجنوب السودان جواراً آمناً، وأن يكف كل واحد منهما عن اذى الآخر وان يفك الجنوب ارتباطه بحركات التمرد الشمالية كافة والفرقتين التاسعة والعاشرة وتسريحهما، وأن يتفق البلدان الجاران على حل كل القضايا العالقة بينهما، وإيجاد الحلول العادلة التي ترضي الطرفين.
الانتباهة