جعفر عباس

الخلاص في «وعد جعفور»


يعرف قراء الزاوية الغائمة أن صاحبها مفكر عربيقي له إسهامات نظرية جسيمة أثرت الفكر السياسي العربي، ولم يكن يليق به أن يصمت إزاء ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة (وكلها محتل عمليًا)، وإذا كانت الأحداث الدامية التي راح ضحيتها الملايين بين شهيد وجريح ولاجئ وليدة وعد بلفور، فالترياق المضاد هو «وعد جعفور». وبما أنني نتاج الفكر العربي المعاصر فإنني أعتقد أنَّ المواطن العربي قاصر، ومن ثم لن أخوض في تفاصيل الوعد بل سألخصه في إيجاز: الدولة الفلسطينية المستقلة فعليًا وعمليًا قادمة ولا صلة لها بالدولة العرجاء التي يعدوننا بها كل بضعة أشهر، ولا تتشاءموا بالقول: وكيف تقوم مثل تلك الدولة وديناصورات أسلو ومدريد جالسون على الكراسي؟ يا جماعة لا تنسوا أنه حتى الكراسي لها حس وطني وبالتالي فإنها حتمًا ستصيبهم بالبواسير والناسور فيهلكون أو ينزوون في دور العجزة.
العرب لم يستخدموا بعد ترسانتهم بالكامل. ورغم التشنيع على الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي يعلم الله وحده كم عددها، فإنّ جهاز البوساد يقوم بنشاط مكثف في صمت. وقد شوهد أفراده خلال الأحداث الدامية المتعاقبة، وهم يبوسون الجرحى وجباه الشهداء، ومن المؤمل أن يعمل المكتب القومي للبوساد الذي يتبع للجامعة العربية بكفاءة عالية خلال الغمة العربية المرتقبة (يبدو أن الكمبيوتر الذي أكتب عليه هذه السطور صنع في السودان مما يفسر ميله إلى جعل القاف غينًا والعكس، تمامًا كما أن الكمبيوترات في الخليج لا تميز بين الضاد والظاء)، وسيشهد الجمهور العربي خلال الغمة تبادل البوسات على مستوى رفيع حتى تهتز الأرض تحت العدو خاصة بعد إذاعة البيان الختامي، الذي بلغني أن صياغته أوكلت (البيان كالعادة جاهز سلفًا) إلى فحول الشعراء الذين ليسوا بحاجة إلى فياغرا من وادي عبقر.
وقد لامني بعض القراء لأنني لم أكتب عما يحدث في الضفة الغربية وغزة طوال أكثر من عام، وعذري في ذلك، أنني لا أكتب إلا بعد استشارة كتب التراث العنترية التي تلهب الحماس وتحثنا على بذل الخدود والشفاه في سبيل نصرة قضايانا، وفي أحد تلك الكتب عثرت على معلقة الشاعر الجهلاني خذيل الطبعاوي، الذي قال مخاطبًا حبيبته سيرين بنت كوهين: ألا هبي بخدك فاصبحينا / وبوسينا لكي نغدو عجينا / ونشرب إن وردنا الماء صفوا / ونشبع غيرنا بوسا مهينا / وللعذال فلفلة وكيد/ لأنا قد رقصنا ماكرينا.
وربما يذكر المعنيون بالقضايا المصيرية تلك الواقعة التاريخية التي تمثلت في حضور فيفي عبده لحفل تدشين القناة الفضائية الفلسطينية حيث وقف الشاعر مغردا: وطني لو شغلت بالبوس عنه / نازعتني عليه في البوس فيفي
وفي معظم العواصم العربية أثبتت الجماهير التي تتندر على قادتها أنها أيضًا نتاج ثقافة البوس والعويل فكان ما نشاهده على شاشات التلفزيونات من جعجعات عملاً بقول الشاعر: وللأوطان في فم كل حُرٍّ / مظاهرة وبوس مستحق.
لله در الشعر العربي الذي نجد فيه الفياغرا والفاليوم والعزاء والسلوى.. وبينما كان المشيعون يحملون جثمان شاب فلسطيني صرعته رصاصة إسرائيلية، تسلل إلى أذني الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم باكيًا: وكان في العشرين لم ير/ ألفًا من الشموس مقبلة/ ولم يعش هناءة الزفاف/ ولم يكن في يده أكثر من حجر/ ولم يكن في فمه أكثر من هتاف/ وكان في خطوط النار في المقدمة. (هرب مني الشاعر عندما سألته: متى يصل الصاروخ إلى القابعين في المؤخرة)!

jafabbas19@gmail.com