يوسف عبد المنان

خربشات (الجمعة)

(1)
كان نجماً في سماء السياسة السودانية حتى يوم توقيع اتفاقية السلام 2005م حيث تمت إزاحته من منصب الوالي، مثلما تم ذبح ولاية غرب كردفان من الوريد إلى الوريد وتقديمها كبش فداء لإنفاذ بروتوكولات نيفاشا. كان اللواء “محمد مركزو كوكو” أيضاً من القيادات التي تمت التضحية بها وإزاحتها من منصب الوالي ليجلس عليه الجنرال “إسماعيل خميس جلاب”.. وعثر على مقعد هامشي في الحكومة المركزية ليصبح الوالي الذي له بريق وعطاء ويحبه الناس في منصب وزير دولة بالسياحة. ولسلطان الزغاوة “التجاني آدم الطاهر” طرائف وحكايات مع الوزارات الهامشية، سألته يوماً أين أنت يا أخي الجنرال “تجاني”، ضحك بطريقته الخاصة وقال: (جدعوني في وزارة إذا قدمت طلباً ليضربك شخص بنية لقالوا لك أذهب وتعال بكرة حتى نجد شخصاً يضربك بنية).. ووزارة السياحة في بلد لا يرتادها الأجانب إلا مبعوثين مرغمين وبها أكثر من (30) ألف جندي أجنبي وفي كل طرف من أطرافها حرب تستعر ونهب وسلب وصراعات قبلية تحصد الأرواح، تعتبر السياحة فيها ضرباً من الأماني المستحيل تحقيقها.. لأن اللواء “محمد مركزو” ضابط مظلات يحترم قادته.. وعرف عنه الانضباط الشديد والولاء المطلق للحركة الإسلامية حتى (إتمنته) على تنفيذ عملية القبض على الإرهابي “كارلوس” ولم يتحدث عنها حتى بعد أن ذاع صيتها وكتب عنها “عادل الباز” كتاباً تخطفته أيادي القراء التي تلهث وراء الجديد من حبر المطابع.. غادر “محمد مركزو” الخرطوم قبل سنوات إلى مناطق الزراعة في هبيلا يحرث الأرض ويأكل من عرق جبينه وكسب ضراعه بدلاً من أن يصبح متسولاً في مكاتب الحكومة، يسألها المليون ووقود السيارة وإيجار المنزل. لم يجلس في مجالس الخرطوم يندب حظه ويطعن حزبه بالشائعات والتخرصات ويمني نفسه بعودة إلى السلطة مجدداً.. وهو الأكثر إيماناً يبقول الإمام الشافعي:
الأيام بين الناس دول
ومن سره زمن سادته أزمان
احترف “مركزو” الزراعة في مناطق مارديس وشرق هبيلا فتنامت ثروته الزراعية من السمسم والذرة وعباد الشمس، ولكن الأوضاع الأمنية هددت مشروعاته الزراعية وأصبح المزارعون ما بين خيارين (المجازفة) بالتراكتورات والعربات التي يبحث عنها التمرد، وإما أن يمد خيط التواصل السرية مع المتمردين ليتقي شرهم ولكن المتمردين يبحثون عن رأس “مركزو” بأي ثمن ويعتبرونه من الذين يجب جز أعناقهم والتربص بهم.. والمتمردون يبغضون “مركزو” و”بلندية” و”موسى يونس”، وقد نجحوا في تصفية “إبراهيم بلندية” ونجحوا في نسيج خيوط الدسائس والمؤامرات من خلال أتباعهم في الداخل، من إقصاء “موسى يونس” من السلطة ولا يزالون يبحثون عن رأس “مركزو” الذي قاتلهم بشراسة في عمليات مطار كوبر.. وعمليات جبل بوما.. وتحرير الرقفي وأم دلو.. وواجههم في ساحات التفاوض منافحاً عن الإنقاذ ومشروعها الفكري.. رغم أن الإنقاذ قد لفظته وأبعدته عنها وخسرت الكثير. ولكن أمثال “مركزو” (يمرضون ولا يموتون)، لأنهم قيادات صنعتها المحن وخرجت من صلب الجماهير ولم تصنعها السلطة في غفلة من الزمان.. كان والده “مركزو كوكو” نائباً في البرلمان عن الحزب الاتحادي الديمقراطي، استطاع إسقاط مرشح حزب الأمة “حماد أبو سدر”، وإسقاط مرشح اتحاد عام جبال النوبة “هبيلا أبو حمرة”.
في مثل هذا اليوم من الأسبوع الماضي التقيت اللواء “محمد مركزو” بالصدفة المحضة في منزل د. “خالد حسن بطران” الأستاذ بجامعة الدلنج وأحد المثقفين الموسوعيين في بلادنا.. قدم لنا دعوة لزيارته في مزرعته الواقعة شرق حي الصفا بالدلنج وقد هجر “مركزو” زراعة السمسم والذرة وأصبح (جنايني) مثل أهلنا البرنو والهوسا المغرمين بفلاحة البساتين، وهم يطعمون المدن بالفاكهة والطماطم ومثلما البقارة في غرب السودان رعاة والنوبة مزارعو،ن فالبرنو والفلاتة والبرقو اشتهروا بزراعة حواكير الطماطم والبطاطس.
(2)
{مدينة “الدلنج” مسحت دماءها بطرف ثوبها.. وأخفت جزئياً مقلتيها الدامعتين بسبب الحرب التي جعلت منها مدينة تتنفس تحت زخات الرصاص.. وفي شرق حي الصفا الجزء يشكل امتداد لحي أقوز القديم اختار اللواء “محمد مركزو كوكو” جنينته في أرض جبال النوبة.. على حافة وادي أبو حبل الذي ينحدر من جبال المندل والكاركو وكجوية ويتجه شرقاً (يشق) مدينة الدلنج إلى نصفين ويغمرها في فصل الخريف بكميات كبيرة من المياه المهدرة، زرع “مركزو” المانجو الجنوب أفريقي الذي يعتبر من أجود أنواع المانجو رغم آراء الدكتور “عبد القادر محمد أحمد” ونظرته المثالية لإنتاج السودان من المانجو ذات الألياف الكثيفة، ويعتبرها “عبد القادر” (مواصفات) مانجو ذات ألياف بنسبة عالية.. وزرع البرتقال والليمون والقريب فروت والتبن والتين والرمان وأخذ يأكل من حصاد زرعه وعرق جبينه بدلاً أن يأكل من حصاد كذب لسانه، لأن السياسي يأكل حصاد كذبه والمزارع يأكل من عرق جبينه.. أرض خضراء.. حفيف أوراق الليمون تداعب شجيرات المانجو.. ومزرعة دواجن تحت التشييد ومزرعة ألبان تبحث عن التمويل.. وقد توافد على المزرعة بعض رموز المنطقة وقادتها.. د. “حامد الطاهر” عميد الطلاب بجامعة الدلنج و”عبد المنان أحمد” الشهير بالشاعر أو ابن قريش المخزومي و”ياسر مختار” الشهير (بأبو عمار)، و”إسماعيل عبد الله (منيكلي) أحد مزارعي هبيلا.. و”الزين البدوي حسن”.. و”عامر حسن عبد القادر” الناشط في المؤتمر الوطني وكمندان بهلول.. وثلة من أخيار محلية الدلنج يحتضنهم “مركزو” في مدرسته الزراعية بدلاً من معسكراته القتالية.. يشرح للزوار طريقة زراعة المانجو.. وعائدات الليمون التي تغنيه عن راتب البرلمان والزراعة النموذجية تزدهر وتنمو بعرق الجبين والسواعد الخضراء، ليثبت “مركزو” أن السياسي الذي ينتظر التعيين ورحمة القيادة العليا بتوظيفه من أجل إعاشة أسرته، لهو سياسي بائس وغير جدير بالاحترام.
(3)
{غادرنا الدلنج في ذلك المساء قبل حبسنا بأمر الطوارئ متوجهين إلى محلية القوز.. وعند قدوم الجنرال “عيسى آدم أبكر” قبل ثمانية أشهر أطلق بشريات بفتح الطريق بين الدلنج والأبيض، وكسر شوكة التمرد في منطقة الصبي شمال غرب الدلنج ولا يزال الناس هناك في انتظار وفاء القائد بوعده.. حيث (تغلق) أبواب مدينة الدلنج عند السادسة مساءً لا يدخلها زائر ولا يخرج منها مسافراً.. تصبح (الدلنج الحديق) كما يقولون سجناً كبيراً حتى بزوغ اليوم التالي.. وقساوة السجن على الأحرار أشد من قساوة الفقر ونقص الغذاء.. وقديماً قال الشاعر الأندلسي ابن زيدون:
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب
قد يودع حد الصادم الجفن
والدلنج تنتظر الخروج من السجن الذي تعيشه الآن بإطلاق سراح مواطنيها وتعود لها الحيوية وتغني وتفرح وتحتفي (بسبر اللوبا)، وتعود كرنفالات الأفراح في النتل.. وقبل أن تبلغ السنجكاية تلك القرية التي ورد ذكرها في كتاب عشر سنوات في سجن “المهدي” بلغي نبأ وداع زميلي في المدرسة الوسطى الدنيا ورحيله المُر عن الدنيا، إنه “هارون الصالح أحمداي”.. وكانت وجهتنا إلى قرية السنجكاية غرب أو مملكة الفقيه العالم الشيخ “هاشم السنوسي جاد المولى” الذي يقرأ القرآن بلحن لم تسمعه أذني حتى في مكة والمدينة المنورة.. رحم الله “هارون الصالح أحمداي”.. وحفظ الأخ “محمد مركزو كوكو” صاحب القلب الأبيض الذي يفيض بحب الناس والسعي لخيرهم ومساعدتهم بما يملك، والآن يفتح حديقته مدرسة ليتعلم منها الآخرون الزراعة في الأودية والخيران وما أحلى طعام يزرعه صاحبه ويحصده.. وهو ينام غرير العين وهاني البال.
وكل (جمعة) والجميع بخير.