في تذكر صاحب الصور الشعبية
في مثل هذه الأيام قبل تسعة أعوام كان الناعي قد نعى الباحث المرموق الطيب محمد الطيب، الذي عانى من وعكة صحية ألزمته سرير المرض بالسلاح الطبي، وكان مما قيل بخصوصه قبل وفاته أنه سيغادر إلى دولة الإمارات لاستكمال علاجه على نفقة الدولة، وبعد يوم أو يومين قرأنا ما يفيد بأنه سيغادر إلى المملكة العربية السعودية وليس الإمارات للاستشفاء بالمستشفى السعودي الألماني، وبعد يومين أو ثلاثة سمعنا أنه غادر، ولكن ليس للمملكة أو الإمارات، وإنما غادر هذه الفانية وخرج جثمانه من أحد أحياء أم درمان التي أحبها وإلى إحدى مقابرها، وليس من أحد المستشفيات الخارجية، حيث لم تفِ الحكومة بوعدها وظل فقيدنا يكابد آلامه ويصارع المرض بأحد عنابر السلاح الطبي إلى أن وافاه الأجل المحتوم.
من المعلوم أن الموت يدرك البشر ولو كانوا في بروج مشيدة أو في أحدث مشافي الدنيا، وأنه إذا جاء لا يؤخر ساعة، وأن الأجل إذا حان لن يوقفه مشفى ألماني أو أمريكي أو قاهري، ولكن ما يحز في النفس في حالة فقيدنا ورمزنا الشعبي الكبير الطيب محمد الطيب الذي صنع رمزيته بعرق الجد والاجتهاد والعطاء وحفر اسمه في وجدان الناس وذاكرتهم بعمله وعلمه النافع وليس بوضع اليد وفرض الأمر الواقع، قد غادر هذه الفانية وفي نفسه شيء من حتى، تلك الوعود الزائفة بتكملة علاجه بالخارج، وعلى كل حال ذهب الطيب وترك خلفه ذكرى باذخة لرمز شعبي حقيقي، وليس مثل رموز الكرتون والشمع التي لا محالة زائلة وذائبة حالما تزول الظروف الطارئة التي صنعتهم.. واللهم إنا نشهد أن عبدك الطيب محمد الطيب، كان نافعاً لأهله وأمته، فقد كان إعلامياً مجوداً لعمله وباحثاً لا يضاهى في التراث السوداني.. عمل بوحدة أبحاث السودان التابعة لجامعة الخرطوم وبوزارة الثقافة مديراً لمركز الفلكلور، كما قدم العديد من البرامج التلفزيونية والإذاعية؛ أبرزها برنامج صور شعبية، كما قدم عشرات المحاضرات، ونال عدداً كبيراً من الجوائز والأوسمة، وألف عدداً من الكتب؛ نذكر منها تاريخ قبيلة البطاحين من أدبهم الشعبي، الانداية، الدوباي، الشيخ فرح ود تكتوك، المسيد، بيت البكاء، تاريخ المديح النبوي في السودان، الصعاليك العرب في السودان، الإبل في السودان، وغيرها من المؤلفات المعنية بالتاريخ والتراث الشعبي، وهذا باختصار نذر يسير من سيرته العامرة، فاعف اللهم عنه ووسع مدخله وأكرم مثواه واجعل الجنة مستقره ومأواه.