هيكل.. السفر في الغروب
“السفر في الغروب” تعبير بالغ الدلالة أطلقه الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل ليعبر به عن الموت، وهكذا كان يسمي الموت “سفرا في الغروب”، وهو يتحدث في وداع عزيز لديه، ذاكرا الراحلين بفعل المضارع.. وشاءت مشيئة الله أن يسافر الرجل الأربعاء الماضي إلى الموت في رحلة بلا عودة بعد عمر ناهز 93 عاما قضاها في نشاط وحيوية حتى في آخر رمق.
منذ نحو عشر سنوات، كان قد استأذن بالرحيل من الحياة العامة، لكنه لم يستطع إلا أن يغادر بكامل حيويته ونشاطه.. ومن مواقفه المدهشة في سيرة الموت وهو يزور مقر إحدى كبريات الصحف البريطانية، طلب منه أحد محرريها أن يراجع معه نص كلمة التأبين المعدة مسبقا للنشر بالإنجليزية عقب وفاته شخصيا، نظر هيكل للورقة بمشاعر محايدة -كما وصف ذلك لاحقا تعليقا على الحادثة- ثم انتهى إلى قناعة شخصية بأن الموت جزء من الحياة.
أبلغ تعبير عن رحيل الرجل قرأته، هو أن رحيله، رحيل مؤسسة وليس مجرد رحيل شخص عادي.. فرصيد الرجل في السياسة والصحافة تضيق به المجلدات الضخمة ولا سبيل للإحاطة ولو بطرف منه في هذه العجالة.. والسياسة والصحافة التي ارتبط بهما رصيد الرجل كانتا مجالا حيويا لإبداعه وتفرده.. فقال عنه أنتوني ناتنج (وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية في وزارة أنتوني إيدن) ضمن برنامج لهيئة الإذاعة البريطانية في 14 ديسمبر 1978:”عندما يكون قرب الحدث يهتم الكل بما يعرفه، وعندما يبتعد عن الحدث يتحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه”.
ولعل الرجل جعل من علاقة الصحافة بالسياسة واقعا يمشي على رجلين في الفضاء العربي على الأقل.. لقد أسهم هيكل في صياغة السياسة في مصر منذ فترة الملك فاروق وحتى وفاته، وكان قلمه ورأيه خلال فترة الرئيس جمال عبد الناصر آلة ومنفذا استعان بها عبد الناصر في إدارة أكبر قطر عربي من حيث الثقل الجيوسياسي والاستراتيجي.
من الناحية التاريخية كان استخدام الصحافة في السّياسة أمرا ليس بالغريب فهذا ابن خلدون يقول في كتابه “مقدمة ابن خلدون”:”أعلم أن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره.. والقلم منفذ للحكم السلطاني” ويمضي ابن خلدون قائلا إنه في مرحلة من مراحل الدولة:”يكون أرباب الأقلام أوسع جاهاً من أرباب السيوف وأعلى رُتبةً وأعظم نعمةً وثروةً وأقرب من السلطان مجلساً وأكثر إليه تردداً وفي خلواته نجيّاً”.
ويقول خبراء وعلماء السياسة والإعلام المعاصرون إنه ومن الصعوبة بمكان تصّور العملية السّياسية دون “العملية الاتصالية” أو تصّور الاتصال دون سياسة.
فالعلاقة بين النظامين، الاتصال والسّياسة، في أي مجتمع من المجتمعات، المتقدمة أو النامية أو غيرها، علاقة جوهرية إلى الدرجة التي يصعب معها تصّور أحدهما دون الآخر، أو قيامه بوظائفه بمعزلٍ عنه. ولا يمكن فهم الاتصال حين يُنظر إليه في مجموعه، دون الرجوع إلى بعده السّياسي، ومشكلاته التي لا يمكن حلها دون أن نضع في اعتبارنا العلاقات السّياسية.
مشكلة هيكل أنه كان واحدا من النخب العربية (الأنتلجنسيا) المعاصرة التي نشأة في زمن الانكفاءة وطغيان تيار العولمة أو الثقافة العالمية وهي الثقافة الغربية، التي قصد أن تكون ثقافة تُعمّم، وذوقاً واحداً يفرض على جميع البشر، تُلغى بموجبهما الاختلافات والتمايزات الحضارية.. وهيكل واحد من تلك (الأنتلجنسيا) التي غاصت أقدامهم في وحل العولمة.. ولا شك أن جذور (الأنتلجنسيا) احتلت عمقا مجتمعية ذا فاعلية ذهنية نوعية.. خطورة العولمة التي تتمسك بها (الأنتلجنسيا) العربية بأهدابها، إنها عقيدة الغرب الذي يناطحه القوميون من أمثال هيكل، إنها ازدواجية مُدهشة أعاقت التفكير الاستراتيجي المنطلق من أصول وقيم هذه الأمة التي سادت العالم في زمان ليس هو بالغابر.
وفي حين لم تشب علاقته بالرئيس عبد الناصر شائبة ومضت سمنا على عسل، لم يكن على ما يرام مع خليفته محمد أنور السادات ولم يكن هيكل موضوعيا حين رأى في أحد كتبه أن السادات كان يعاني من عقدة نقص ترجع إلى الأصول الإفريقية لأمه التي حولها أبوه إلى خادمة عند بقية زوجاته وأولادهن.
وفي عهد محمد حسني مبارك كان يبدي كثيرا من الاعتراض على سياسته الخارجية التي لا تراعي العمق الاستراتيجي العربي والإفريقي، وتتخلى عن الدور الأصيل لمصر في محيطها العربي والإقليمي.
وقال عن الرئيس المنتخب محمد مرسي إنه لا يقبل النقد لأنه يستحضر في نفسه صورة الإمام الديني.. بيد أن هيكل خسر كثيرا بمواقفه الأخيرة خاصة تأييده للانقلاب العسكري على مرسي ووصفه لقائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي بأنه رئيس الضرورة.