رأي ومقالات

أمير تاج السر : المحلي والعالمي

أثناء حضوري فعاليات الدورة السادسة لجائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، التي جرت فعالياتها في الأسبوع الماضي في الخرطوم، والتي كنت أحد محكميها هذا العام، انتبهت لترديد كلمتي: المحلية والعالمية كثيرا، كل من يسألني أو يطلب إفادة تخص الجائزة، يتحدث عن المحلية التي تقود للعالمية، باعتبار الطيب كاتبا محليا تحول إلى عالمي، وأرى مجموعة من الكتاب السودانيين، من أجيال مختلفة، يتجهون للكتابة بأدوات بسيطة، يحتفون فيها بالمحكي، والموجود بكثرة في مجتمعهم، ولا بد بهذا الاحتفاء بمحليتهم، يطمحون لطرق أبواب أوسع.
في رأيي الشخصي، أن الأمر الآن، مختلف تماما عما كان يحدث في الزمن الذي كتب فيه الطيب: «موسم الهجرة» و»عرس الزين». وتوفيق الحكيم: «يوميات نائب في الأرياف». وعبد الرحمن الشرقاوي: «الأرض»، وكثيرون ممن اتخذوا مفردات بيئاتهم وقسوتها، وتفاصيلها القحة متكأ للكتابة الروائية والقصصية. لم تكن في الدنيا ثورة اتصالات تقرب كل بعيد، وتتيح للباحث أن يحصل على ما يريده من معلومات، في لحظات قليلة، ومن مصادر متعددة ومهولة، فيها مكتبات عامة ومكتبات خاصة أنشأها أفراد للفائدة العامة، وشخصيا استفدت كثيرا من تقنية الإنترنت في الحصول على معلومات جغرافية، وتاريخية كنت أحتاجها لبعض النصوص، وغيري من الكتاب في أي مكان استفادوا ويستفيدون في كل يوم.
لقد كانت الكتابة الروائية قديما، مرآة عاكسة بقوة لحالات المجتمع، إن كان مستقرا، ستبدو هادئة، وسلسة وهي تتنقل بنا في الدروب المختلفة ومع الشخصيات المختلفة، وإن كان المجتمع هائجا أو مجنونا، بدت الكتابة الروائية كذلك، وهناك روايات ظهرت في أثواب دروس واضحة، أو صفحات معرفية غنية بالدلالات، وهكذا.
لذلك كان لا بد لكل باحث عن جينات مجتمع ما، ولا يريد طرق باب الجغرافيا وعلم الاجتماع الذي قد يكون جافا، في بعض الأحيان، أن يقرأ رواية تخص ذلك المجتمع، وسيعثر على ما يريد، وكلنا انبهرنا بأدب أمريكا اللاتينية في فترة ما، وكان قد ظهر وجلب معه المعرفة، المعرفة الحقيقية لعادات ذلك الشعب وتقاليده وردود أفعاله في كل الأحوال، ومن ذلك الأدب، أمكننا أن نقارن أحوال المجتمع اللاتيني بأحوال مجتمعنا، ونجد تقاربا كبيرا، وأخاذا في التعلق بالأسطورة والخرافة، وإن كانت التقنيات مختلفة، فما يفعله العرافون وقراء الطالع هناك، من سطوة كبرى على الأدمغة البسيطة، وأحيانا الأدمغة التي توهجت بالعلم، يفعله الأولياء الصالحون في عرف الناس عندنا، ومعظمهم دجالون، اتخذوا من تلك الصفة الصالحة، التي اكتسبوها، أو أهديت إليهم من البعض، دروبا سهلة للرزق.
كنت قرأت مرة في إحدى قصص أمريكا اللاتينية، لا أذكرها بالضبط عن عراف، يزيل الهم والحسد، والكرب عن المكروبين، ويعين العازبات على الزواج، والراغبات في الحمل والولادة، على الخصوبة، وتلقيت بعدها بسنوات رسالة ممن يسمى الشيخ زكريا، كان يتحدث عن نفسه بفخامة عجيبة، ويطلب تجربته، وسيصبح أحد المحطات الرئيسية في حياتي بعد ذلك، وكانت عروضه التي قدمها، هي تماما ما كان يقدمها العراف في القصة اللاتينية، وفيها حل الكرب، وإزالة الهم والحسد، وتزويج العازبات، وأمكنني بذلك أن ألم بما عندنا وما عند اللاتينيين، وما نعتبره تفصيلا محليا خالصا، ولم يكن مع الأسف خالصا لنا، وتشاركنا فيه شعوب أخرى، وإن اختلفت التسمية، واختلف تناول الأفعال.
من المؤكد إن تحدثنا عن مسألة الإبهار، في فترة العصر الذهبي للكتابة الروائية بالنسبة لنا وللغرب أيضا، سنعثر على بهار كثير كان مفقودا أو لنقل، غير مرئي ولا متوفر بسبب شح المعلومات، وعدم إمكانية الوصول السريع إلى معلومة أو طرفة أو سحر، عبر البحث المضني في الكتب الورقية. وتأتي حينئذ الرواية المحلية، المترجمة للغات عدة، كمنقذ يوفر المعلومة، وفي الوقت نفسه كساحر يوزع جرعات الإبهار بلا حدود. سينبهر الغربي الذي يقرأ مثل تلك النصوص، بمنظر نساء مغطيات الوجوه، وحكاية عن عدم رؤية الزوج لوجه زوجته إلا في ليلة الدخلة، حكاية أخرى عن درويش مغبر، يرتدي ثيابا مرقعة، ولا يملك أي أوراق ثبوتية، وقف أمام ضابط الجوازات في أحد المطارات، من ضمن صف وقف فيه حجاج، ذاهبون لأداء الفريضة، وقال له: سأذهب للحج هذا العام. بلا جواز سفر، ولا تأشيرة، ثم سيعود هؤلاء المصطفون من الحج بعد ذلك ليقسموا أن الدرويش كان يطوف ويسعى معهم، وشوهد يقبل الحجر الأسود، بينما عجزوا هم عن الوصول حتى للمسه مجرد لمسة. ومن الحكايات التي كانت ستبهر أيضا وتؤدي إلى التعجب، وكتبت كثيرا في كتاباتنا العربية، مسألة زواج سبعيني أو ثمانيني بقاصر في العاشرة، برضى كل الأطراف المعنية بذلك الزواج.
تلك تفاصيل محلية تخص مجتمعاتنا كما ذكرت، وكان الاهتمام بها، كبيرا، وأي عمل روائي، شاء حظ كاتبه أن يترجم إلى لغات أخرى، وجد نصيبا من بث الإبهار في تلك الفترة، وتحول إلى نص عالمي.
لنأتي لعصر الإنترنت، الذي ما زال البعض يصر فيه على الكتابة بتعسف، وجر المفردات الخاصة جدا، مثل طقوس ختان الأنثى، التي ما تزال موجودة في كثير من البيئات، إلى نصوصه بغرض الإبهار بالمحلية، للحصول على جرعة شهرة عالمية. أعتقد أن هذا لن يجدي كثيرا، فالعالم يعرف أن الختان ما يزال موجودا هنا وهناك، ويمكن للمهتمين بالأمر، تزويد الكاتب نفسه بتفاصيل عن تلك العادة، هو نفسه لا يعرفها، كما يمكن تزويده حتى بأسماء الفتيات الضحايا، والنساء المتورطات في تشويه الفتيات، واليوم الذي حدث فيه ذلك.
إذن لنكتب بتلقائية مفرطة، بمعنى أن نترك للنص خياراته التي يريدها أو يفضلها، النص إن ارتأى أن يكتب شيئا من التفاصيل الخاصة، فليكتبها بسلاسة شديدة وبلا قصدية واضحة، تعطل فعل التلقي المهم للكاتب بالتأكيد. العالمية تكون جيدة جدا إن لم تكن هدفا معلنا وجاءت بعفوية تامة، والمحلية مع الأسف لم تعد محلية.
العالم كله أصبح بلدا موحدا، يختلف فقط في تفاصيل قليلة.

كاتب سوداني

أمير تاج السر