بعد الرحيل
تمر علينا قريباً ذكرى رحيل شاعر الشعب “محجوب شريف” وهو أولاً من أصدقاء العمر التقينا في مراتع الصبا وركضنا على عشب الحياة الأخضر ثم على عشب اليسار الأحمر.. التقينا وهو غريب على المدينة قادماً من المدينة عرب.. ودارساً في معهد مريدي لتدريب المعلمين.. ولما تخرج عمل في مدارس الثورة فالتقينا في عشق الطباشيرة وقلم التصحيح كنا أربعة لا نفترق الراحل خالد الذكر “محجوب شريف” ودكتور “من الله الطاهر” و”التجاني سعيد” والفنان “ميرغني سكر” لا نفترق إلا للنوم.. كنا نجلس يومياً في المسطبة أمام منزلنا فئ الحارة الخامسة نقرأ الأشعار ونحكي الأسمار ونضحك حتى نبكي..كان “محجوب” في العشرين من العمر تقريباً.. وكانت الحياة حلوة.. حتى قيام محاولة يوليو الثورية ومنذ ذلك الحين أصبح زبوناً دائماً للسجون والمعتقلات طاف على سجون “المعتبرة” حتى أصبح السجين السياسي الوحيد الذي مر على معظم سجون السودان بدأً بسجن كوبر… سجن دبك.. بورتسودان.. شالا.. قضى شبابه كله في السجن وما أن توقفت الاعتقالات العشوائية وبدأت الإنقاذ في إطلاق سراح المعتقلين والمساجين والسياسيين.. ارتاح من السجون برهة حتى حاصره داء الرئة اللعين فأصبح رهين محبسه الجديد المرض وعاش آخر سنواته وهو يرتدي الكمام، سجن المرض كان أشد وطأة إذ حرمه من لقاء عاشقه الأول والأخير المواطن السوداني.
كان “محجوب” ضمن أسرة سودانية بسيطة وجميلة فقد رحل الوالد وترك الحاجة “مريم محمود” تربى ثلاثة أولاد وبنت.. الأكبر “الخير” كان وسيماً ونشيطاً حتى هده المرض.. و”محجوب” والأصغر “أحمد المصطفى” الذي درس في كلية الموسيقى والمسرح واتجه إلى حركة الأدب وكتب القصة القصيرة والنقد ومنال شقيقتهم الوحيدة وآخر العنقود والتي رحلت في ريعان شبابها بداء القلب عليها رحمة الله.
من لم ير المقابر عشية مات “محجوب” لا يستطيع أن يتصور زحام الخلق وتدافع الناس تغطت مقابر أحمد شرفي على سعتها بالناس.. وفي موكب مهيب تحرك من الحارة 21 وحتى المقابر سيراً على الأقدام.. جموع من الشباب النساء وحتى الأطفال.. لعل هذا الزمان لم يشهد عزاءً مثل هذا وتدافعاً مثل هذا.. التقى الشباب بالعجائز النساء الحبوبات والأجداد.
آخر مرة زرته قبل أيام في مستوصف (تقى) بأم درمان كان في حجرة العناية المركزة.. لكن الطبيب الذي قرأني جيداً سمح لي بالدخول.. وقفت بعيداً فقال لى: سلم عليهو.. فنزع الكمامة.. وبيده فراشات الدرب وسلم على بيد دافئة وبعيون لأول مرة تكون حزينة النظرات لعله استشرق الوداع.. خرجت منه.. ودفء يده العجيب يلتصق بكفي لا يفارقها..
-افتقدتك كثيراً يا “محجوب” ودون أفراد الشعب السوداني الذين افتقدوك مناضلاً جسوراً ثابتاً.
-افتقدتك أنا لصداقة عمر لإنسانية شفيفة لذكريات مشتركة كنت صديقي ومعلمي.
-افتقدتك يا “محجوب”، وأنا أهنئ الشعب السوداني لأنه أنجب “محجوب محمد شريف”.