دروس الانفصال (1)
هل تعلم السودانيون شيئاً من دروس انفصال ثلث أراضي الدولة وربع سكانها؟؟ أم نحن شعب لا يتعلم عن دروس الأمس إلا بقدر يسير جداً؟؟ حينما سأل المفكر “روجيه جارودي” عن العقل الشرقي وهو المهتم بالدراسات الشرقية مقارنة بالعقل الغربي قال: العقل الشرقي نقلي ومقلد والعقل الغربي (تجريبي).. وكثيراً ما ردد الناس مقولة عن قوم “البوربون” الذين لا يتعلمون شيئاً ولا ينسون!! هل السودانيون في الوطنين الشمالي والجنوبي تعلموا شيئاً من درس الانفصال؟؟ أم ذرف البعض دموع الحزن وأرسل الآهات في هجعة الليل على فراق كان بعيداً وأصبح واقعاً.. وذرف سودانيون آخرون دموع الفرح قبل أن يكتشفوا أنه فرح كذوب!!
هل سأل أحد نفسه أو سأل النخب التي تنشط في الساحة ممن يدعون بأنهم خبراء في الشأن السياسي والعسكري والدراسات الاجتماعية ما هي القوى التي فصلت جنوب السودان؟؟ وهل الادعاء بأن القوى الأجنبية التي تتربص بوحدة السودان هي التي قررت فصل جنوب السودان صحيح؟؟ وما هي مصالحها في ذلك؟؟ والأهم كيف استطاعت تلك القوى إرغام الجنوبيين أو حملهم على اختيار الانفصال؟؟ وماذا كسبت القوى الأجنبية التي يدعي الكثيرون أنها الفاعل الرئيسي من الانفصال؟؟
مثل هذه الأسئلة وغيرها يختلف الناس حول أجوبتها، لكنهم بالطبع يتفقون على حقيقة واحدة هي أن السودان قد انشطر لدولتين ولا يزال خطر التشظي ماثلاً وشاخصاً بشدة إذا كانت الأسباب التي دعت الجنوب للانفصال حاضرة في فضاء جوبا وفي فضاء الخرطوم على السواء ونعني الحرب التي تدور هنا.. وتدور هناك، لسبب واحد هو الصراع على كراسي السلطة ولا شيء غيره.. و(القدريون) يعدّون الانفصال (قدراً) لا فرار منه.. والذين تعشعش في مخيلتهم نظرية المؤامرة هؤلاء يرمون باللائمة على القوى الأجنبية المتربصة إذا شحت مياه الشرب أو ارتفعت أسعار البيض يقولون لعنة الله على أمريكا.
في عرف هؤلاء.. الحرب مؤامرة أمريكية ونقص الأمطار مؤامرة أمريكية.. وتظاهرات سبتمبر مؤامرة أمريكية.. ونقد سياسات “بدر الدين محمود” مؤامرة أمريكية.. وخلافات اتحاد الصحافيين مؤامرة أمريكية.. وأحداث قرية ملِّي بالقرب من الجنينة مؤامرة أمريكية.. وحتى إجهاض زوجتك في مستشفى الولادة بأم درمان هو مؤامرة أمريكية.. ولا يعدّون رهن العقل لكل شيء للآخر مؤامرة أمريكية.. وأسباب انفصال جنوب السودان لا تعدو كونها عجزاً عن درء مخاطر الآثار المباشرة وغير المباشرة لسنوات الحرب.
من يقرأ الساحة الجنوبية قبل الاستفتاء وبعد التوقيع على اتفاقية السلام الشامل يدرك أن النخب الشمالية ساهمت بقدر كبير جداً في تعزيز (نفوذ) الانفصاليين في السلطة.. وقديماً قال “تروتسكي” القوة تقرير في مصير الأشياء والسلطة في بلدان العالم الثالث (قوة).. وحينما رحل “جون قرنق” رحلت معه آخر آمال وحدة السودان وقفز على ظهر قيادة الحركة الشعبية التيار الانفصالي وتيار ما يعرف بالذاتية الجنوبية، وعند تشكيل أول حكومة وحدة وطنية سعى بعض المتنفذين في المؤتمر الوطني لإبعاد العناصر الوحدوية في الحركة، وسيطرت عقلية (الشماتة) على البعض بإقصاء كل ال شماليين من دائرة الفعل التنفيذي (إمعاناً) في معاقبتهم على خياراتهم التي ارتضوها.. ولم يدر هؤلاء أن إبعاد الشماليين الوحدويين يعزز فرص الانفصاليين الجنوبيين.
نعم كانت رؤية الوحدويين في الحركة الشعبية عصية التحقيق بسبب الكلفة السياسية الباهظة لمن يريد الوحدة، إلا أن وحدة السودان حينما أصبحت في المحك إما تقديم تنازلات جوهرية نظير الوحدة أو أن تتمزق البلاد.. كان الخيار أن يذهب الجنوب إلى سبيله، لكن هل كان الجنوبيون على قناعة بالانفصال أم هناك من دفعهم دفعاً لهذا الخيار؟؟ وهل الذين دفعوا الجنوبيين للانفصال انتهت مهمتهم المقدسة؟؟ أم انتدبوا اليوم لمهمة جديدة في الوطن الشمالي والوطن الجنوبي؟؟ هذا ما نجيب عنه غداً!!