الهروب
* هل يمكن للمرء أن يعيش في الماضي على حساب الحاضر؟!..
* هذا ما أثار حيرتي حين جلست إلى سوداني هنا بعيداً عن الوطن ..
* قال إن مخزون ذكرياته الحلوة هو ما يعينه على مواجهة صعاب الحاضر ..
* فهو يقتات منها غذاءً نفسياً وروحياً ومعنوياً يعادل به أحزان الراهن ..
* يستدعيها متى يشاء ليستشعر بها سعادة تنسيه مرارات الواقع هذه الأيام ..
* وإن من حلو الذكريات هذه- حسب قوله – ماهو سياسي وماهو اجتماعي وماهو عاطفي ..
* علماً بأنه سياسي هارب من أجواء في بلده قال إنها صارت خانقة ..
* ولكنه لا يتنسم الآن سوى أريج ذكريات بعيدة حفاظاً على توازنه النفسي ..
* ذكريات تمنحه سعادة كاذبة بدليل ضحكات لا تنبع من القلب ..
* وحتى ذكرياته العاطفية لا تضفي على ملامح وجهه الشاحب ألق الحياة عند إجترارها ..
* ذكريات حياته الاجتماعية بكل صخب الصحاب وسمر الأماسي وجلسات الأغاني كذلك ..
* فهو يعيش تعاسة تدركها (البصيرة) رغم محاولات إخفائها عن (البصر)..
* ومن ثم فإن فلسفته بجدوى الهروب من الوطن والحاضر و(الذات) غير مقنعة ..
* فمهما يكون الوضع موجعاً فإن من الأفضل للإنسان أن يواجهه بغرض التغيير ..
* فإن فشل فبغرض التعايش معه بأي كيفية كانت ..
* فإن فشل فالهرب إلى عالم الذكريات بالداخل وهو (أضعف الإيمان) ..
* الإيمان بالقضية التي صيرته معارضاً لا يرى في الوضع القائم شيئاً جميلا ..
* وإن كان ما يشتهيه الإنسان يمكن تحقيقه بالأماني لما فقد صاحبنا هذا حبيبته .. * ومن يعجز عن استعادة حبيبة (هاربة) لا يستطيع أن يعيد ما هو (هارب) سياسيا ..
* لا يستطيع ذلك وإن (هرب) هو نفسه استدراراً لعاطفة الأقدار ..
* ولو كان ذلك ممكناً فليكثر – سيما وإنه ذو طرب – من ترديد أغاني الذكريات ..
* ليغن مع عثمان الشفيع -مثلاً – (الذكريات صادقة وجميلة) ..
* وليردد مع خالد الصحافة (ما بفيد أنا لو الملم من عيونك ذكريات)..
* وليدندن مع عثمان مصطفى: (لما تحكي ذكرياتنا كنت تحكيها بأمانة) ..
* ومهما يكن (الداخل) أليما فإن الذي أكثر إيلاماً منه الهرب إلى (الخارج) ..
* الهرب منه جسدياً وعاطفياً ونفسياً و(عقليا) ..
* ثم انتظار رؤية جثة (العدو) وقد أتى بها النيل (شمالا) ..
* وإلى ذلكم الحين (التعزي بماضي الذكريات !!! ) .