يوسف عبد المنان

دروس الانفصال (2)


القوى الاجتماعية التي حملت القيادة الجنوبية حملاً على التصويت لخيار الانفصال، هم أولئك الآلاف من اللاجئين وأبناء اللاجئين الذين ولدوا في معسكرات البؤس والشقاء في “كينيا” و”يوغندا”.. واللاجئين إنسانياً لـ”الولايات المتحدة الأمريكية” و”أوروبا” و”أستراليا”.. هؤلاء اللاجئون حينما ينفتح وعي الشاب الصغير ويسأل أمه عن لون بشرته السوداء وسط البيض، فإن والدته تجيبه أن وطنه هو السودان، ولكن حكومة وطنه من الشماليين قد طروا والده وأمه وأخيه وعمه وخاله.. وهم الآن لاجئون بلا حقوق وهائمون في أرض الله الواسعة بلا نصير إلا المجتمع الدولي.. تروي الأمهات للأطفال الصغار فظائع الحرب وأهوالها.. وحتى النازحين داخلياً يشعرون بمرارة الواقع الذي يعيشونه في وطنهم بأطراف المدن في خيام بائسة وخدمات شحيحة.. يتعرضون لمضايقات الشرطة وحملات عمال البلدية.. ولد في المنافي آلاف الشباب وترعرعوا بعيداً عن الوطن الأم، وحينما توقفت الحرب عادوا إلى وطنهم في “جوبا” و”ملكال” في مخيلتهم صور سوداء عن الشمال والشماليين.. غذت نفوسهم آثار الحرب.. وظلاماتها ومرارة العيش بعيداً عن أحضان الوطن ودفء العشيرة.. هؤلاء درسوا حتى الجامعات بعيداً عن وطنهم وغزت عقولهم وعواطفهم صور إعلامية شائهة عن حكومات السودان، وحينما لاح فجر الاستفتاء شكلوا تنظيماً شبابياً مطلبياً عرف بـ(شباب من أجل الانفصال)، هؤلاء كانوا بمثابة تنظيم داخل تنظيم (الحركة الشعبية) وقوى اجتماعية مؤثرة جداً، حرضت الجنوبيين على التصويت لخيار الانفصال، وهددت رئيس الحركة “سلفاكير ميارديت” وهيئة القيادة بأنها قادرة على إزاحتهم من مواقعهم في حال عدم تبنيهم لأشواق الأغلبية بانحياز كامل للحركة الشعبية لخيار الانفصال!!
اليوم يعيش في خارج حدود السودان الآلاف من اللاجئين السودانيين بالمهاجر في “أوروبا” و”الولايات المتحدة الأمريكية” من مناطق “دارفور” و”جبال النوبة” و”النيل الأزرق”.. هؤلاء اللاجئون تغذي منظمات الغوث الأجنبي مخيلتهم بأحقاد وضغائن ومرارات خاصة الأطفال الذين ولدوا تحت أزير مجنزرات الحرب.. وبين شظايا البراميل المتفجرة والجوع والفقر.. والمرض.. يسأل الصغار أمهاتهم اليوم عن وطنهم وتأتي الإجابة لقد تم طردنا من بلادنا.. يسأل عن والده وتأتي الإجابة قتل في الحرب.. يسأل آخر عن أمه والإجابة جارحة ومؤلمة.. فماذا نتوقع من هؤلاء حينما يبلغون سن الثامنة عشرة؟! حتى في داخل السودان اليوم نصف سكان دارفور في المعسكرات.. النازح في معسكر (كلمة وخمسة دقائق والحميدية) يتم منحه بضعة أمتار وخيمة صغيرة في وطن نباهي بمساحته.. وحتى قبل مجئ الأخ المهندس “آدم الفكي” والياً على “جنوب دارفور” كان النازحون ممنوعين من دخول مدينة نيالا!! في كل ساعات اليوم إلا بإذن من السلطات المشرفة على تلك المعسكرات، وكان النازحون يمنعون القيادات الحكومية من دخول المعسكرات، مثل هؤلاء النازحون داخلياً واللاجئون خارجياً متى ما سنحت لهم فرصة التصويت لصالح وحدة البلاد أو الانفصال، فإن خيارهم معلوم بالضرورة، لذلك تطاول الحروب وتفاقم الأزمات وتأجيل الحلول من شأنه مساعدة القوى المتربصة بوحدة السودان، وإذا كانت حرب الجنوب الأخيرة قد بلغ عمرها (21) عاماً، فإن حرب دارفور اليوم قد بلغت (13) عاماً، وحرب المنطقتين قد بلغت (5) أعوام.. فماذا يحدث إذا بلغت تلك الحروب العشرين عاماً.. وهل أبناء اللاجئين في دول الجوار واللاجئين الذين وصلوا حتى دولة الكيان الصهيوني من مسلمي دارفور وجبال النوبة يحملون في دواخلهم أية مشاعر إيجابية نحو المركز؟؟ إن كان الأمر غير ذلك لماذا لا نعتبر بقضية الجنوب ولا نجعل بقية أطراف السودان تمضي على نسق معلوم النهايات؟؟ لقد عززت الحكومة من وجود أبناء دارفور في السلطة ومنحتهم النسبة التي يستحقونها، ولكن ماذا فعلت بالقضية السياسية التي لا علاقة لها بالتوظيف السياسي ولا الاستقطاب الوظيفي؟!!