انطوت الصفحة وبقيت الفكرة!!
انطوت صفحة ناصعة من حياة الشيخ والدكتور والمفكر العالم “حسن عبد الله الترابي” الأمين العام للمؤتمر الشعبي الذي رحل عن دنيانا فجأة وبدون مقدمات، رغم أن الموت حق وهو سبيل الأولين والآخرين.
لا أحد كان يتخيل أن يرحل الشيخ “الترابي” بهذه السرعة، والكل كان ينتظر أن يرى المشهد السياسي وقد تغير تماماً إلى مصلحة الشعب السوداني بعد دعمه المتواصل للحوار الوطني.
ظل الشيخ “الترابي” يتمتع بعلاقات اجتماعية واسعة مع الكل رغم اختلاف الأيديولوجيات الفكرية، لكن كان يرى أن المصلحة الوطنية تقتضي التلاقح مع الأحزاب الأخرى.
لقد كان سرادق العزاء بالمنشية في ميدان يسع الآلاف من أبناء الشعب السوداني، جاءوا والكل يعزي نفسه.. نرى “تابيتا بطرس” تدخل (صيوان) الرجال وهي تعزي الكل، ابنه “عصام” الذي لم يقو على الوقوف على رجليه لمصابه الجلل، والشيخ “إبراهيم السنوسي” يحتضن هذا ويبكي مع هذا، وكثير من دموع الرجال تتقاطر وإن أخفاها البعض لكن احمرار العيون يؤكد أن المصاب جلل، وليست غالية على الشيخ الذي وهب نفسه وحياته وفكره وبيته وكل ما يملك من أجل الفكر والدعوة.. لقد كان “الترابي” أمة، لذلك جاءت الأمم معزية في فقده.. الفريق “مهدي بابو نمر” يشق السرادق ليقدم واجب العزاء لهذا وذاك، وقيادات من حزب الأمة بتياراتها المختلفة داخل السرادق وقامات سامقة صحفية وإعلامية تقف على أرجلها في طابور طويل حتى تصل إلى أحد أفراد أسرة الفقيد.. الفضائيات من داخل السرادق تنقل إحساس المواطنين والمعزين صوتاً وصورة.. الدكتور “محمد محيي الدين الجميعابي” يتحدث عن حياة الراحل “الترابي”، والدكتور “بشير آدم رحمة” يستقبل هذا ويعزي ذاك وهو صابر.. أما الأستاذ “عبد الله دينق نيال” ورغم انفصال الجنوب ما زال هو المواطن السوداني بكل إحساسه، يشارك في العزاء ويتقبل عزاء الآخرين بنفس الشعور والإحساس القديم، لأن الشمال والجنوب ما زالا روحاً واحدة في جسدين.
جموع من أصحاب الفكرة الأولى والمتطورة والمتجردة يتقاطرون من ولايات السودان المختلفة، وسفراء من هذه الدولة وتلك تدخل السرادق لتعزي في فقيد الأمة.
لقد رحل الشيخ “الترابي” بجسده، لكن روحه ما زالت باقية مع إخوانه حتى الذين فرقت السياسة بينهم ما زالوا يحتفظون بما قدمه من صنيع.. لقد كان الشيخ “الترابي” حلو المعشر لطيفاً في تعامله، وقد خبرناه نحن الإعلاميين والصحفيين طوال عهدنا به منذ أن تولى منصب وزير العدل بالديمقراطية الثالثة، ووزارة الخارجية، ومنصب رئيس المجلس الوطني إبان فترة (الإنقاذ)، كان صديقاً لكل الإعلاميين يسر لنا بأدق تفاصيل الأشياء، يملكنا المعلومات، ولا أنسى في إحدى مقابلاتنا معه إبان الديمقراطية الثالثة التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة أنني طلبت منه التعليق على قانون الدفاع الشعبي الذي طرح وقتها، وعندما ذهبت إليه في اليوم الثاني بدار الجبهة الإسلامية القومية بنمرة (2) وجدته قد كتب تعليقه ووضعه عند سكرتيره السفير الآن “محمد الحسن إبراهيم”، فقلت: يا شيخنا كنت أريد أن أطور الخبر إلى حوار، فقال لي: سأعطيك أول مقابلة تجريها معي في حكومتنا القادمة، ولم تمض إلا شهور قليلة وجاءت (الإنقاذ).