ضياء الدين بلال

حُسن الخاتمة


(1)
سالني صديق عزيز:لماذا تكثر من طرح أسئلة عن الدكتور حسن الترابي في برنامجك (فوق العادة) بقناة الشروق ؟!
قلت له دون كثير تفكير: في السودان الحديث منذ الإمام المهدي إلى اليوم, توجد ثلاثة شخصيات غيرت مسار التاريخ باحداث كبيرة فارقة: الرئيس جعفر نميري بتطبيق الشريعة الإسلامية (1983)م؛ وجون قرنق بمشروع السودان الجديد، وما ترتب عليه من إنفصال الجنوب وحروب في الأطراف: ودكتور حسن الترابي بالتغيير الذي تم في (30) يونيو (1989)م.

(2)
قليلون هم الذين باستطاعتهم تغيير مجرى التاريخ في بلدانهم .أغلب السياسيين تجدهم غارقين في تفاصيل الحاضر, ومن السهولة مسح اسمائهم بقطعة قماش مبللة بماء فاتر من على سبورة الأحداث.
اسم دكتور حسن الترابي ، لن يستطيع الزمان تخطيه بتجاهل وعدم إكتراث، بل سيقف عليه طويلاً ، يرصد ويُحلل ما فعل وما كتب وما قال.

(3)
منذ بدايتنا في دروب المعرفة، وإكتشاف عالم السياسة والأفكار، كان الشيخ موضع إهتمامنا؛ تشدُنا إليه شخصية آسرة، لا تستطيع أن تتعامل معها بحياد وعدم إهتمام، نبرات صوته لها سطوة على الآذان، شعاع عينيه بجاذبية المغناطيس، حركات جسده تجعلك في أعلى درجات الإنتباه، قادر على مفاجأتك في أية لحظة بفكرة جديدة وملاحظة ذكية وتعليق ساخر، يضع الملح على الجرح والسُكر على الإبتسامة.
ذهبت لمحاورته قبل سنوات حينما كنت أعمل بالعزيزة (الرأي العام). للرجل هيبة طاغية ترتجف لها الأطراف ويجف الحلق، والحوار معه مهمة ذهنية شاقة تحتاج لتركيز ومُتابعة لا تتوفر لأمهر لاعبي الشطرنج.

(4)
في كل مرة أجد نفسي أكثر إنجذاباً لأطروحاته الفكرية من تجربته في السياسة، التي تتسع فيها مساحات الأخذ والرد والتحفظ والإعتراض.
وحينما اطلعت على مقال مُطول بمجلة الفكر الإسلامي عن الثابت والمتحرك في الدين ، أدركت أنني أمام مُفكر عظيم صاحب رؤية مُتجاوزة للمعتاد والمُتاح.
وعندما وقع في يدي الكُتيب الصغير (تجديد أُصول الفقه)، عرفت ان دكتور الترابي وضع إصبعه على مكان العلة، التي قبل علاجها يستحيل إستنباط أحكام فقهية تُناسب العصر وتُوافق العقل.
أما الكُتيب الأصغر (المرأة بين تعاليم الدين وتقاليد المجتمع )، فهو رغم محدودية صفحاته، إلا أنه حمل أفكاراً عظيمة مُتقدمة من حيث المنطق وقوة الحجة على كثر من الأُطروحات السابقة.
ما كان يميز شيخ الترابي عن كثير من السياسيين الجرأة في إتخاذ المواقف، والشجاعة في التعبير عنها؛ فهو يصارع بقوة ووضوح ويُوافق ويُسالم بصدق وتجرًد.

(5)
كنتُ في سنوات المفاصلة، وما ترتب عليها من صراع، أجد فيه شخصاً حانقاً معتقلاً في مرارته،
منذ عامين أو أكثر قليلاً لم يعُد التُرابي ينظر إلى الماضي بغضب، بل على العكس؛ أصبح أكثر عناية واهتماماً بالمستقبل لصنع مُعادلة سياسية تُحقق السلام والحُرية وتُجنِب السودان الفتن.
عقب المفاصلة حينما، زار وفدٌ زعاميٌ إفريقيٌ دكتور الترابي، سُئل أحد أعضاء الوفد عن إنطباعه عن شخصية المَزُور.الرجل لخصً التُرابي في وصف مُحكم، حيث قال : (هو رجل غاضب، غير معني بالمستقبل)!
وكنت قد كتبتُ قبل ثلاثة أعوام في هذه المساحة، بعد مشاهدتي لمقابلة أجرتها الإعلامية المصرية المتميزة منى الشاذلي مع دكتور الترابي:
(أشعر بكثير من الحزن والأسى، أن تُهدر طاقة وتجارب وأفكار وخبرات رجل مثل دكتور التُرابي، في مُغالطات التاريخ ومرارات الراهن، مع العجز التام عن صناعة الآمال ).

(6)
في الفترة الأخيرة، ربما بعامل العُمر والشعور بدُنو الأجل، وما يحيط بالراهن من أزمات، وما يتهدد المُستقبل من مخاطر، كان يراها بالعين المُجردة دون الحاجة لمُكبرات بصرية؛ كان الرجل على استعداد لتقديم أفضل ما لديه من رؤى وافكار.
رحل دكتور الترابي نظيف الوجدان، مُتجرد من المشاعر السالبة، رحل بأمانيه الطًيبة للشعب السوداني بالرفاه والاستقرار، فنال حُسن الخاتمة السياسية.
قلت لصديق ونحن بصيوان العزاء، نشاهد دموع الكبار من كُل الطًيف السياسي:لماذا يجمعنا الموت وتُفرقنا الحياة؟!