جعفر عباس

حسن الترابي ليس من طينة القذافي


كان كرهي لمدمر ليبيا العقيد معمر القذافي، يفوق كرهي لمدمر العراق نوري المالكي، الذي لا هو بمالكي ولا حنبلي ولا شافعي، وقد عزا بعض أصدقائي كرهي للقذافي لكونه اختطف يوم مولدي (الأول من سبتمبر)، ليس لأنّ ذلك اليوم يعني بالنسبة إلي شيئا، فلست ممن يحفلون بـ«أعياد» ميلادهم، بل لأنهم يزعمون أن احتفال القذافي بذكرى انقلابه المهبب عاما بعد عام، كان يذكرني بعمري البيولوجي/ الحسابي الذي اعتبره من الأسرار القومية، وازددت كرها للقذافي لأنني كنت أحتفظ بكتابه الأخضر، واستخدمته مادة لعشرات المقالات الصحفية، وفي ذات مطار عربي عثروا على الكتاب في حقيبة يدي، وخضعت لاستجواب طويل باعتبار أنني أروج لأفكار هدامة، فقلت للمحقق إن محتويات الكتاب فعلا هدامة، ولكن فقط لليبيا، فاعتبر كلامي هذا ضربا من الاستهبال، لنفي تهمة اعتناق النظرية العالمية الثالثة القذافية عن نفسي، فاستأذنت منه وفتحت الكتاب وطلبت منه أن يقرأ ملاحظات كتبتها على هوامشه، فقرأها وابتسم وأطلق سراحي.
كان بعض ما كتبته على هوامش «الكتاب الأخضر» يقول بالحرف الواحد عن فكرة «شركاء لا إجراء»: ينصر دينك يا أخ معمر، وسأطالب جهة عملي في دولة قطر أن تعطيني اسهما تجعل لي نصيبا ثابتا في أرباحها، وعن قوله «البيت لساكنه» كان تعقيبي: شكرا لأنك ستجعلني من أصحاب الأملاك العقارية في قطر، أما ما جعل المحقق في ذلك المطار يتبسم، فهو تعقيبي على مقولة القذافي «المركوب للراكب»، حيث قلت: دي ما تلزمنيش، لأنّ المركوب عند أهل السودان هو حذاء يصنعه الاسكافي يدويا ويسبب لبسه بواسير القدمين.
وانتهى الأمر بالقذافي محشورا في أنبوب للصرف الصحي على مشارف مصراته، ومات وعود خشبي محشور في مؤخرته، ورغم أنني ظللت أتمنى أن يمد الله في أيامي حتى أشهد نهاية حكمه هو وبقية الطواغيت العرب، فإنني استأت كثيرا لتعذيبه ثم عرض جثمانه في محل تجاري لعدة أيام.
ووصلت الخرطوم في اليوم نفسه الذي صعدت فيه روح الدكتور حسن الترابي إلى بارئها، ومنذ يومها وصحف السودان تتبارى في تعداد مآثر الفقيد وألقابه: المفكر المجدد والعالم الفقيه والسياسي المحنك، وكان الترابي هو مهندس الانقلاب العسكري الذي حدث في يونيو من عام 1989، وكاتب سيناريو الفيلم الهندي الذي نصّ على أن يذهب هو عند تنفيذ الانقلاب إلى السجن حبيسا على أن يذهب العميد (المشير حاليا) عمر البشير إلى القصر رئيسا، لإيهام الشعب السوداني بأنه ليس للجبهة الإسلامية القومية التي أسسها وقادها الترابي صلة بالانقلاب، ثم حدثت المفاصلة في عام 1999 عندما رفض تلاميذ الترابي الذين ذاقوا حلاوة السلطة ومتعة التسلط، أن يبقى وصيا على التنظيم السياسي ونظام الحكم فعزلوه وزجوا به في السجن.
لم أصفق طوال حياتي للترابي، لا قبل الانقلاب الذي دبره ولا بعده، لأني كنت أرى فيه النموذج الكلاسيكي الذي لا يرى الخيط الرفيع بين الميكافيلية والبراغماتية، وفي الوقت نفسه كنت ومازلت أعتقد أنَّه أمهر وأذكى القادة السياسيين في سودان اليوم، ورغم أنني ظللت أسيء الظن بأطروحات الترابي السياسية والفكرية والفقهية، وأعتبره مسؤولا عن معظم البلاوي التي لحقت بالسودان في السنوات الأخيرة، فإنّ الاستياء بلغ بي حد التقيؤ عندما انبرى نفر من أهل السودان، يعتبرون أنفسهم أوصياء على الإسلام والمسلمين يسبون الترابي بعد موته، باعتبار أنه كافر ولا تجوز الصلاة عليه وهو ميت، وعندما قال لهم البعض «اذكروا محاسن موتاكم» قالوا: هذا حديث ضعيف.
المسلم، بل حتى غير المسلم السوي، لا يشمت بالموتى ويكيل السباب لهم، وانتقاد شخصية عامة في أفعاله وأقواله جائز بل ومستحب، ولكن حتى انتقاد الأحياء يجب أن يخلو من الفجور والغلو في الخصومة.