يوسف عبد المنان

خربشات الجمعة


(1)
يشعر المرء بالوحشة واليتم بفقدان الأم والأب حتى ولو تقدمت به السن، وتظل رائحة ثوب الأم تنفذ إلى دواخلك وتشعرك بالألفة والود والطمأنينة والإحساس بالوجود كإنسان.. وحينما تنصرف “أمك وأبيك” عن الدنيا يشعر المرء بالخوف والجزع.. لكن الإحساس باليتم الحقيقي يتسرب لدواخلك حينما تفقد آخر (خالة) في الدنيا تودع شقيقات الأم ثم يتبع حزنك بفقدان العمة والخالة.. والأم حينما تضع في حجرها وتخلل بيدها العطوفة على فروة الرأس تشعر بالسعادة الغامرة والحياة بطعمها.. وكانت الأمهات يلبسن ثياب (الزراق) التي تأتي من صعيد مصر وكذلك (الفركة) والتي انقرضت اليوم، وهناك ثوب (القرمصيص) الذي يتم وضعه على العروسين يوم الزفاف.. وقد شعرت بالدموع تنهمر يوم زواجي وأمي الراحلة “أم عبد المنان” تضع ثوب القرمصيص على البدلة.. وكانت أغنيات السيرة تمجد ذلك الثوب القرمصيص غالي الثمن ما بدوه جمالي.
والجمالي هنا ليس صاحب الجمل الذي يعتبر من وجهاء المجتمع وعيونه وإلا لما تغنت المغنية:
جملاً جاي من جدة
القيد والرسن فضة..
في بواكير العمر كانت أمي تجلب الأرز من الوادي، حيث ينبت الأرز في (الأضاي) ومفردها (أضاه)، وهي منطقة منخفضة يتجمع فيها ماء المطر وينبت الأرز وتحصده أمهاتنا في فرح وسرور في الأيام الأخيرة من شهر (سبتمبر) و(أكتوبر) ويساهم في درء الجوع عن البطون، ومذاق الأرز البلدي لم أتذوق مثله سواء أكان أرزاً فلندياً أو أمريكياً أو مصرياً وفلبينياً.. وخيرات بلدنا تبدأ من الرز ولا تنتهي عند فاكهة (أم مديكة) و(أبونضراب) و(القضيم) و(اللالوب) وبنات السرح، أصبحت اليوم تلك الذكريات تموج في النفس لحظات الصفا.. ويتذكر المرء في عيد الأم الذي هو عندي من الأعياد الحميدة ولا يمثل بدعة ولا ضلالة.. لأن تقدير الأم وبرها.. وحبها.. وتقديسها من أصل الشريعة والدين والفطرة السوية.. في عيد الأم يتبرع الأبناء لأمهاتهن بالصدقات توزع للمساكين.. وفي يوم عيد الأم يحرص الأبناء على الغرس الطيب.. بوقف لروح من انتقلت لرحمة مولاها.. وفي الشهر الماضي فقدت شخصاً آخر عمة شقيقة والدي المرحومة “زينب عبد المنان” التي كانت تحتضننا حينما نعود إليها بالشوق والحنان، وتتسرب دموعها بلا أسباب ربما تتذكر أشقاءها الذين رحلوا.. وشقيقاتها اللاتي أخذهن الموت.. وفي يوم رحيل “زينب” بت “عبد المنان” شعرت بأني فقدت آخر عمة.. كما فقدت قبل أربع سنوات آخر خالة في الدنيا، حينما أغمضت خالتي “خديجة بت حسن” جفنيها للأبد.. وبعد كنت أشعر بالحسرة والآخرين من حولي يتحدثون عن أجدادهم.. أنا الذي لم يكتب الله لي رؤية أي من أجدادي، ولكن اكتحلت عيناي برؤية (حبوبتي) بت “الفارس” (أمو) بت كرتكيلا.. وبعد أن كان بعض الأقران يقولون فلاناً بدون حبوبة وجد، أصبحنا اليوم بدون (عمات) ولا خالات. لا قلب رءوف يحن علينا من جور الزمان ورهق الحياة ولا عطر له مذاق يتغلغل إلى دواخلك من ثوب (خالتك) و(عمتك) ويعيد إليك ولو مؤقتاً طيف الأم التي نسأل الله في هذا اليوم أن ينزل على قبرها شآبيب الرحمة والغفران.
(2)
في بعض الأحيان يلوذ الإنسان بقراءة الكتب القديمة للهروب من الواقع المزري الذي نعيشه والإحباط الذي صبغ حياتنا بسبب الإحساس بفشل الإنسان في تحقيق أي شيء من أحلامه.. وشعوره بهروب أيام النضارة والعطاء.. واحتقان الصدر بالمواجع والآلام.. من أروع ما كتبه السودانيون كتاب (الأفندية ومفاهيم القومية في السودان) للدكتور “خالد حسين الكد” الذي اشتهر كانقلابي سعى من أجل السلطة بدبابات في غسق الليل، ولكنه فشل وذهب للسجن مثل أي انقلابي تحدثه نفسه بأن يصبح قائداً للبلاد، قبل أن يطوف علينا زمان تموت فيه فضيلة التسامح والعفو، ويصبح كل من يقود (انقلاباً) مصيره ليس مقابر معلومة مثل “البكري” و”أحمد شرفي”، بل يدفن في وادٍ غير ذي زرع لتنهش عظامه الكلاب والهوام.
الدكتور “خالد حسين الكد” يقول (يتوجب علينا الاعتراف وخصوصاً بأفندية الثلاثينيات من القرن السابق، لأنهم بذلوا جهدهم للوصول لإجابة حول مسألة القومية في السودان، إلا أنهم لم ينجحوا أبداً في صياغة المفاهيم القومية التي صاغها الواقع في مرحلة الحكم الثنائي، وبكل أسف حتى الآن لم يهتم الباحثون وعلماء السياسة السودانيون كثيراً بالوقائع السياسية وبطبيعة الاختلافات بين المجتمعات التي تعيش في الرقعة الجغرافية التي أصبحت بعد 1956م تسمى جمهورية السودان فقط.. تابعوا بصورة أو بأخرى خطوات جيل الرواد جيل الأفندية الأول، لازالت القومية السودانية ممزقة بين العروبة والأفريقيانية) انتهى.
الاقتباس من كتاب الأفندية.. و”د. خالد حسين الكد” لو عاش حتى لحظة المفاصلة التاريخية بين مكونات السودان وانقسام البلاد على أساس شبه أثني ذهبت أغلبية القبائل العربية بالسودان الشمالي تمجد الصحراء وتذم الغابة.. وقالت القبائل الزنجية من الجنوب (هذا طرفي من الشمال العربي)، ولكن ما تبقى من الشمال العربي المسلم لا تزال في أحشائه تكوينات عرقية معتبرة تصل لأكثر من (50%) من سكانه ذات أصول أفريقية، ولكنها (90%) منها ذات اعتقاد إسلامي، وإذا كان الأفندية هم من (صاغوا) هوية السودان القديم، فإن (العسكر) اليوم في الدولتين السودان الشمالي والسوداني الجنوبي من يقررون في هوية البلدين بحكم سيطرتهم على مصادر القوة واحتكارها، وقديماً كتب “تروتسكي” عن القوة التي تقرر مصير الأشياء، فإذا كانت هوية السودان قد ساهم منطق القوة في صياغتها.. فإن هوية الدولة الجنوبية تقررها زخات الرصاص وطول مواسير المدافع التي تدك معاقل الخصوم.. وحينما تصبح القوة هي التي تقرر في هوية الشعوب، فإن تلك الشعوب سيطول بقاؤها في كنف الظلام الدامس.
(3)
في غمرة أحزان “حسين خوجلي” التي لجمت قلمه السيال ووقف حبره حائراً بين صحائف وقراطيس الخرطوم، كيف يبكي رحيل “الترابي”.. وكيف يمسح دموع “لبابة الفضل”.. و”حسين خوجلي” هو من زرع الفرح في أثير أم درمان.. وكتب قصائد لم ينشرها “أبو ملاذ” للناس خوفاً أو خجلاً أو درءاً للقيل والقال، لكن “حسين” كتب لفتاة فارسية قصيدة ممنوعة من النشر، وكتب أخرى لـ”إسحق الحلنقي” يقرأها “حسين” سراً في هجعة الليل لمن يحبه قلبه من الناس يقول فيها:
مالو ليلك علم الليل السهر
ومالو شوقك علم الشوق السفر
ومالو دمعك علم الدمع المطر
والأمان الكان زمانك مالو لقاه الخطر
وتاني وين تلقى البريدك
وتاني وين تلقى التواشيح للوتر
وتاني وين تلقى البصيدك
والحروف الجافلة من صندوق رصيدك
وتاني وين تلقى المنارات للبحر
والبشاشات والندوات والمقادير والقدر..
“حسين” يكتب لصديقه “بازرعة” على طريقة “جابر عصفور” الناقد الكبير حينما بعث برسالة شعرية إلى روح “نزار قباني” في يوم رحيله.. و”بازرعة” يستحق أن تكتب فيه القصائد المعطرة بالياسمين، كيف لا.. وقد تأوه نصف السودان مع “بازرعة” حينما تغنت له بنات “طلسم” (البلابل) بالرائعة:
اللي بسأل ما بتوه دارنا نحن قريبة ليك
أنت ما مجبور علينا نحن مجبورين عليك
لو سألت علينا كنت عرفت نحنا الليلة وين
كنت أول لما نحن نغيب ثواني تقول سنين
غيرك أيه يا وحيدنا وللا صابت ريدنا عين
اشتهينا تكون معانا ما لقينا حنان عينيك
وينتهي “بازرعة” بالقول:
لسه مستنين زيارة ناسي طالبنك زيارة
يا جمال فرحة مشاتل الصباح حاضن نضارة
أنت ما تفكر تجينا سيبنا بالأفراح نجيك
وكل جمعة والجميع بخير