عبد الجليل سليمان

إلى عبد المنعم محمد أحمد


يواجهنا عبد المنعم محمد أحمد (مرة في الأسبوع)، يكتب على أخيرة (اليوم التالي) وكأنه يتمطي سرج سابح، ومن تلك الصهوة الشاهقة يهمس بأن (خير جليس في الزمان كتاب). يواجهنا بكتابة تُمسك بيدينا لتُخرجنا من رثاثة السياسي اليومي إلى ما هو أجمل وأكثر سعة. وحين ينثر عبد المنعم كل شيء على مساحته التي من (الجهة الشمال)، أكاد أستحضر في نثره، فهو يعرض ويقص ويروي، راسماً لنا أشياء يلتقطها من الحياة اليومية الأليفة، أو وقائع متناثرة لا معنى لها، ظاهرياً. وهو، في هذا، يحاول أن يعيد النظر في موقف الإنسان من الأشياء الأكثر عادية وابتذالاً، فيضفي عليها قيمة جديدة، ويعترف بأهمية ما يبدو أنه بلا أهمية.
ولأن الرجل يأتي يوم الجمعة فقط، ربما حسبه بعض الناس (براني) في عرضة الكتابة الصحفية، لكننا – الذين (نعرض جوة) – نسمعه جيّدا، نقرأه بحب حتى نكاد نخاصر حروفة الندّية، حروف لها خاصية تحويل اليومي (المتواضع) إلى (ما لا قبل للكتابات الصحفية الراتبة المتعجلة به)، يا لكتاباته حين تجعل الأشياء الصامتة تتكلم، كتابة ترفع الجلمود إلى سويَّة الإنسان، فتصبح صديقاً أو حلماً.
والحال، إنني هنا لا بصدد الثناء ولا التقريظ، وإن كان عبد المنعم يستحقهما وأكثر، ولكنني أحاول الوقوف أمام عتبة أظنها تفضي إلى الباحة المثالية للكتابة اليومية بوصفها نوعاً من العمل المُهلك والمخاتل في آن، إذ أنها (الكتابة اليومية) تنطوي على خاصية الإطاحة التدريجية بمجترحيها، فيما لو لم يتمكنوا من تطوير قدرات وحيل ماكرة تمكنهم من تنويع موضوعاتهم ولغتهم بين فينة وأخرى، ولربما هذا ما يدركه حبيبنا منعم، فيدرجه في كتابته الأسبوعية على أخيرة اليوم التالي.
وكأني إن أوغلت أكثر، ينبغي أن أقول في وصف (سرج سابح) إنها كتابة حداثية ماتعة ومانعة – هكذا مرة واحدة – دونما ريب ولا لي عنق, حداثية إلى حد إنك تتخيلها قصيدة، تنبت كعشبٍ وسط القبور، وكأن الرجل حين يعتلى صهوة سابحه ليبلغ به ذراري الكتابة يعبر غيوم من اللغة والخيالات فتهطل عليه نصوصًا مُحكمات فارهات.
أتصور هذا النوع من الكتابة وكأن (فاعلها) يدق بظفره على زجاج النافذة،
الصوت مسموع، لكن الآخر خارجاً، لا يسمع شيئاً. وبطبيعة الحال، نحن قتلى الجرائد، نكتب أحيانًا كدمى بلا رؤوس، رغم أن بإمكان كثيرين منا ممن وصلوا إلى مرحلة (ترزي أفرنجي) في الكتابة الصحفية، أن يفصلوا لزبائنهم الكرام بنطالين مضبوطة أنيقة – بحسب الطلب – لكن من يدقق فيها يرى ملامح (سيستمها) واضحة.
تلك الكتابات مُنخفضة الخصر، يظنها البعض مثالية (متسقة مع روح الصحف)، يا عبد المنعم، والصحف في واقع الأمر (بلا روح) جراء ذات الكتابات، وبالتالي.. ننتظر الجمعة لنقرأك، إذ أنك تبدو وكأنك تريد أن تكتب أغنية تبرهن فيها أن (صحافتنا) لا تعرف إلا القليل.