جعفر عباس

حتى عاميتنا لم تسلم من الغزو


في السودان لم نكتف باستيراد “العًرَّاقي” الغرب أفريقي وجعلناه زيا للقيافة والمناسبات بألوانه الزرقاء والبنية والبنفسجية واللون زينبية، بل حولنا العمائم إلى طِرح (جمع طرحة)، فصار طرفا العمة مطرزين بألوان عجيبة

وحب كل ما هو غير سوداني جعلنا نستورد مفردات عامية مع وجود نظائرها عندنا بالكوم والردوم، وبعد أن كان الدجاج “جداد” صار “فراخ”، و”جنا الجداد”، صار “بيض” والهمبوكة صارت “بالونة” والطعمية صارت فلافل، وصارت ح”أدُق” ليك، لا تعني أن سيكسر رأس عدو لك، بل أنه س”يضرب لك تلفون”، وإطار السيارة المطاطي لم يعد “يطرشق” بل يبنشر، (وهذه تحوير لكلمة بَنْكشر puncture الإنجليزية) وظللنا منذ دخول خدمة الهاتف الى بلادنا نقول: أضرب تلفون، وقالت مطربة قروية: حبيبي في الخرطوم/ ضربت ليه مكرفون / قال لي هالو (وهي معذورة إذا لم تكن تميز بين المايكروفون والتلفون)، ودق التلفون جاءنا من الخليج، وكلما قال لي خليجي اتصلت فيك اقول له “كيف اتصلت فيني؟”، فيصيح: بلبلبل، زين اتصلت عليك، ولا أتركه حتى أقنعه بأنه اتصل “بي”

عشت في الخليج سنوات أطول من تلك التي عشتها في السودان، ولكنني لا أتبنى مفردات أهل المنطقة، ولا يعني ذلك أنني استخدم مفردات مثل قنب، وانجم (استرح)، و”أعوزو مدّ بوزو”، ولكنه يعني أنني وعلى الأقل عندما أتحدث مع سوداني مغترب مزمن مثلي في الخليج، لا استخدم مفردات خليجية ما عدا الذي يتردد منها على الألسن على مدار اليوم مثل “سيدا” التي تعني في عاميتنا “دوغري” وأظنها تركية الأصل، و”دوار” لما نسميه صينية، وهي اسم سخيف لأن الصينية قد تكون مستطيلة أو مربعة، وكنا حتى عهد قريب نتحدث عن ساعات العمل الرسمية، وفجأة صارت تلك الساعات “دوام”، مع أن الكلمة في منتهى “البلاهة”، وهي في فقه اللغة بنت سفاح لأنها مجهولة المصدر، فلا علاقة لها ب”دام/ يدوم”، فالدوام لله وحده

وبحكم أني تربية مطابخ (ليس بحكم أني نوبي بل لأن والدي كان يملك مطاعم في كوستي، وكان المطعم يسمى “مطبخ”، ولكن الكلمة ضاعت كما ضاعت كلمتا طابونة وفرن وحلت محلهما مخبز)، المهم أنني نشأت مثقفا ذا معرفة موسوعية بلغة المطاعم، ولم تكن تدهشني التسميات العجيبة للأكلات المباعة في مطعم والدي: سرينا وشريفة وسلكيمة والباسم والبلدي، والسمك الفرايض، (لم أنتبه الى ان “فرايض” تحوير للأصل الإنجليزي “فرايد fried”) واليوم تسمع الخرطوميين يتحدثون عن الفراخ البروستيد، ولا تجد من يقول لهم: مي ياهو الجداد المحمر بدراش الرغيف الناشف (البقسماط)؟

تسللت مفردات خليجية إلى عاميتنا، والمصيبة أن من يستخدمونها في لغة التخاطب اليومي، لم يروا الخليج إلا في الأطلس، أو على شاشات التلفزيون، ولا يليق بأي شعب استيراد مفردات وعبارات من لغة أجنبية أو لهجة شعب آخر، في وجود ما يقوم مقامها في لغته، وأقول بكل اعتزاز إنني أتقن اللهجات الخليجية، أكثر من السودانيين الذين يعيشون معي في قطر ويحسبون أنهم سينالون جواز السفر القطري، إذا أثبتوا لزملائهم القطريين في العمل او الدراسة أنهم يتكلمون اللهجة القطرية بكفاءة

أنا أعرف وهم لا يعرفون أن أندر تعني أخرج، وقروشة تعني إزعاج.، ومنطول = مرمي ، وحمولة = يعني قبيلة، ومغتلق= يعاني من ضيق نفسي، ودهريز = مدخل البيت، ومطيور = متهــور، ودج = كن متزنا وعاقلا، وكروز= إبريق الوضوء، وأشكره (بفتح الكاف): بشكل مباشر “على عينك يا تاجر”، و أكو:= يوجد، أو هذا هو (وعند العراقيين والكويتيين فإن “ماكو” هي عكس “أكو”، اي تعني “لا يوجد”)، وهذه مفردات وعبارات قد لا يفهم معانيها جيل الشباب من الخليجيين

ومن الطبيعي أن تتأثر اللغات بمحيطها اللغوي، وتؤثر عليه، ومن ثم فإنه وبحكم أن الأتراك حكموا السودان أكثر من 60 سنة، فقد تركوا عندنا مفردات صرنا نحسبها “محلية”: أوضه، أسطى، أونطه، برضو، كوبري، كفتة، (وعندما ضرب الخواجات الكفته على أم رأسها وفلطحوها قبلنا بتسميتها “بيرقر”)، كباب، دولاب، كلبش، سنجق (وليس سنجك وتعني عسكري ولاحقا صارت تعني “شايقي”) قشلاق (ننطقها بالمصري “إشلاق”)، طز (ملح)، كرباج، البقسماط ،الطشت، الدفتر، والزلابية، واستخدام “جي” للنسبة كأن نقول عربجي وكلمنجي ومغازلجي وكورنجي (لاعب كرة ماهر)، ثم طبزناها وجعلنا أدبخانه التركية وتعني “بيت الأدب” إلى دبليو سي الإنجليزية، التي ترجمها البعض حرفيا إلى دورة مياه باعتبار أن WC= water closet

وبعض الناس المغرمين بغريب الكلام، يحسبون أن استخدام مفردات مستعارة من لغات أخرى، يجعلهم مميزين عن العوام (ناس قريعتي)، صاروا يسمون المعلمة، “أبله”، فهل يجوز تسمية المدرس المذكر “أَبل” بفتح الهمزة وتسكين الباء؟ وصار البعض يحسب كلمة “حبوبة” بلدية وصاروا يسمون الجدة نينه (كما عند الاتراك والمصريين) وبالمناسبة فقد كان المدرس/ المدرسة في ما مضى من الزمان يسمى في السودان “خوجه”، (ولا غرابة، ففي اللغة العربية لا توجد صيغة مفرد ل”نساء”، ولا صيغة جمع ل”امرأة”) وبالمناسبة فإن كلمة خواجة فارسية تركية، وفي سوريا تعني الكلمة المسيحي أو اليهودي الثري

هل تعرف مفردات غريبة تسللت إلى لغتنا العامية عبر التلفزيون أو المغتربين، أو مفردات سودانية انتحرت أو راحت ضحية القتل العمد؟