في الحرب والسلام ..!
«كم هي صادقة – على الرغم من قسوتها – نبوءات الأدب» .. الكاتبة ..!
تلك المفارقة – تعاقب العاصفة والسكون على الجسم الجغرافي الواحد – والتي تجسدها ـفعال الساسة ويصورها أبطال الأدب، تؤكد على أن الفعل السياسي هو وعاء المنتج الثقافي، وأن الموقف السياسي من مبدأ الحرب في بلد ما، هو الوجه الآخر لثقافة شعبها حول مفهوم السلام ..!
فالموقف السياسي هو صنيع الفكرة الثقافية .. رواية «الحرب والسلام» لتولستوي جاءت رؤية فنية فلسفية – عبر منظار الحب والكراهية – لحكايات الأحداث الكبيرة التي «تأثرت بـ»، و»أثرت في» متوالية الحرب والسلام في روسيا القرن التاسع عشر ..!
وهكذا .. تماماً .. صنعت ثقافة «الـ لا عنف» التي أسس لها أدب تولستوي منهج «الـ لا عنف» الذي تنبته سياسة المهاتما غاندي الذي تأثر بفكر تولستوي، ورؤيته السلمية لصراع الإنسان على السلطة..!
في سودان البخاتة هذا .. – وقبل أكثر من عقدين من الزمان – أثرت حزمة رؤى وأدلجات على التوجه السياسي، ثم قادت دفته نحو العنف كـ «حل» .. فكانت الحرب في أقبح أثوابها العرقية والدينية والثقافية .. ثم جاء السلام، كحفيد شرعي لتماسك الرؤى الثقافية المناهضة للحرب والتي صمدت بنجاح في وجه فلسفة العنف ..!
تأمل في ملامح ذلك المواطن/الإنسان أولاً، ذلك الكائن الضاج بالتناقضات .. ثم أمعن النظر في تلك الملامح السياسية التي تتحكم بمصائر الخلائق .. حرباً .. فسلاماً .. فوقوفاً على شفا حفرة العنف من جديد.. ستعيدك تأملاتك في أدب السياسة إلى سياسة الأدب تارة أخرى .
إنه بالضبط ذات الوعاء الفلسفي لقصة «سيد الذباب» لحامل الأوسكار الإنجليزي «وليم غولدينغ» .. هو ذات الواقع السياسي والاجتماعي والأخلاقي لطقوس ومناخات ما قبل .. وأثناء .. وبعد الحروب .. أوليس الأدب إذاً هو وعاء الحقيقة الإنسانية ..؟!
فلسفة غولدينغ وترميزه لسلوك القيادات السياسية جاء مضمناً في شخصيتي جاك ورالف، القائدين الصغيرين، الذين سقطت بهما الطائرة في جزيرة نائية مع مجموعة من أقرانهما .. مات جميع البالغين الذين كانوا على متنها .. ثم تركوهم ليصنعوا مصيرهم بالاعتماد على الفطرة ..!
«رالف» الذي تزعم أصدقائه المنكوبين فوجئ بانقلابهم عليه في حركة تمرد بقيادة «جاك» .. وذعر هو ومن بقوا على ولائهم له من فكرة إعلان الحرب عليهم .. ثم صعقوا من حقيقة كونهم قد أضحوا مطاردين عبر دروب الجزيرة ..!
أذهلهم جدا أن أصدقاء الأمس قد باتوا من القسوة والتهور بحيث أحرقوا الغابة – مصدر الثمار والطعام الوحيد لجميع سكان الجزيرة – فقط لإجبارهم على الظهور .. «عليهم إذاً وعلى أعدائهم بقوانين شريعة الغاب» ..!
حكاية أولئك الأطفال تنتهي بمشهد جماعي مؤثر .. بعد اكتشافهم حقيقة تحولهم إلى قتلة .. عادت الإنسانية إلى أبطال الصراع على السلطة .. عادوا مجرد صغار .. بكى جميع الأطفال وهم يهرعون إلى قبطان سفينة النجاة ..!
هل تجاريني إذا ماقلت لك إن حكاية «سيد الذباب» تشبه حكايات العنف السياسي في بلادنا؟!.. هل هي نظرة الأدب الثاقبة إلى فظائع الواقع .. أم هي سطوة الواقع على أفكار الأدب ؟! .. على كلٍّ .. حكاية «سيد الذباب» انتهت على خير وسلام .. فماذا عن حكايتنا ..؟!