عبد الجليل سليمان

سفسطائية الحوار


يكتب أمين معلوف في كتابة الرائع (الهويّات القاتلة): “علمتني الكتابة أن أحذر الكلمات. فتلك التي تبدو أكثر شفافية هي في أغلب الأحيان أكثرها خيانة. أحد هؤلاء الأصدقاء المُزيفين هو بالتحديد كلمة (هويَّة). فجميعنا نعتقد معرفة ما تعنية هذه الكلمة ونستمر بالثقة بها حتى عندما تبدأ هي بقول العكس بمكر”.
والحال، أن سودانيًا متزوج من مصرية وأنجبا أبناءهما في النرويج، فما هوية الأبناء؟ وما الهوية أصلًا، غير تلك الكلمة المفخخة التي يستخدمها السياسيون لتحقيق بعض المكاسب عبر خلق حالة من الزعازع الثقافية والبلبلات الاجتماعية، فيطرحونها كي تبدو ذات أهمية قصوى كالديمقراطية والحقوق المدنية والاقتصادية في مؤتمر للحوار الوطني، وفي ذلك إعماء معتمد عن الحقيقة.
على كلٍّ، أجد نفسي متفقًا مع أمين معلوف، فيما ذهب إليه بشأن الهوّيات القاتلة، فبعضهم يرون أن الهوية هي الدين، وآخرون يرونها في الجغرافيا أو القبيلة أو العشيرة. إلى أن ينحدر التعريف إلى الأسرة الصغيرة, آخرون يرونها في الوطن، بمعنى (هويتي وطني)، رغم أن الأوطان معرضة للانهيار والبعثرة والانقسام والانفصال (جنوب السودان، الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا السابقتين، الهند وباكستان وبنغلاديش، إثيوبيا وإرتريا)… والأمثلة لا تحصي.
ويسأل بعضهم بخفة، هل (حلايب مصرية أم سودانية)؟، والسؤال الحقيقي هو، هل يشعر مواطنو حلايب أنهم سودانيون أم مصريون؟ وهنا يتداخل الجغرافي مع الشعور الداخلي الفرداني، والوطني مع الخيانة، والاستمرار مع الانقطاع. لذلك فإن الهوية مصطلح لا تعريف له، بل لا معنى أحيانًا، فهل أوباما أميركي أم كيني؟ هل مسلم أم مسيحي؟ الإجابة عنده هو فقط، لا تحتاج لمؤتمرات ولا ندوات ولا تعريفات.
وبعيدًا عن التعريف السقراطي والفرويدي، فإن الهوية بالنسبة لي، ينبغي أن تخنزل في تلك البطاقة التي يسمونها (الشخصية، القومية، أو بطاقة الهوية)، وهي تتضمن معلومات دقيقة عن الفرد الواحد دونما إحالات عرقية أو دينية أو جغرافية، كأن تعطي معلومات عن اسم ولقب حاملها، وتاريح ومكان ميلاده، ونوعه، ووظيفته، وبعض صفاته الجسدية، وتوقيعه وبصمته. لذلك فإن الأمر بهذا المعنى يقلب معنى الهوية من معنى (جماعي) إلى (فردي) جدًا، وهو كذلك من وجهة نظري. فـ هويتي هي ما تجعلني غير متماثل مع أي شخص آخر”. وبتحديدها على هذا النحو – كما يقول أمين معلوف تصبح كلمة هوية مفهومًا دقيقًا إلى حدٍّ ما، لا يؤدي إلى أي لبس.
وهكذا، فإن الحوار الوطني المنتظم داخليًا وخارجيًا، يرتكب خطأً كبيرًا وتاريخيًا، إذ يبدد وقته في نقاش (الهوية) التي لا يعرف أحدًا معناها حتى الآن، عدا ذاك المرتبط بالهوية الشخصية (البطاقة) سالفة الذكر، لذلك كان عليه – أي الحوار – أن يتحدث عن الثقافة واللغات المحلية والغناء والرقص والأزياء، وهذه ليست هوية، وإنما ثقافة، فيما أعتقد. لا ينبغي أن نمضي في (لوّاكة) هذه الكلمة مع لائِكيها من السياسيين والمثقفين الكلاميين، ونستمر بالثقة بها حتى عندما تبدأ هي بقول العكس بمكر.