عبد الجليل سليمان

التسامح باللحمة والابتسامة


من الشائع الغريب في ما يُسمى بقيم التسامح عند السياسيين السودانيين، أن كثيرًا من الكاتبين عنها (إن وجدت) لا ينظرون إلى عمقها، بل يمسون قشرتها الخارجية ثم يحفرون عميقًا بسنانِ أقلامهم يُمجدون ما ليس موجودًا أصلًا. وأمس قرأت على أخيرة (السوداني)، نوعًا من تلك الكتابات المنطوية على إبراز تلك القيم (الغائبة).
لينا يعقوب احتفت بهذه القيم بطريقتها الخاصة، حيث استدعت تقريراً قديماً كتبته من الدوحة، تحت عنوان (مُتخاصمون في الداخل، متحابون في الخارج)، على خلفية صور تجمع إحداهما بين السكرتير العام للحزب الشيوعي حينها الراحل نقد، ومساعد الرئيس السابق نافع علي نافع، وأخرى بين أمين حسن عمر وبشارة دوسة (طرف حكومي)، وجبريل إبراهيم (معارضة مسلحة). أما عادل سيد أحمد الذي ابتدر الحلقة الثامنة من سلسلته (يسألونك عن الترابي)، بما أسماها الجلسة التأريخية بين الراحلين الترابي وسيد أحمد خليفة (الغريمين) بحسب تعبيره، وأشار إلى ما اكتنف اللقاء من (تربية التسامح)، مدللًا بأن الترابي كان (يُنقي) اللحمة الحمراء (الصافية) ويقدمها لضيفه (غريمه)، سيد أحمد خليفة.
والحال، أن لا هذي ولا تلك، ولا أيٍّ من القصص التي تروى، في هذه السياق، تنطوي على ما يُعرف (بقيم التسامح)، بل ربما يمكن تفسيرها بشكل عكسي، إذ ما أخضعناها لنظريات علم النفس الحديث، وفقًا لـ (ألفريد أدلر)، فإن أي شخص ينحو مناحي عدوانية لوقت طويل ثم بغتة يبرز سلوكًا مغايرًا، هو شخص لا يحب النجاح إلا لنفسه ويميل نحو السيطرة على الآخرين، سواء على مستوى العمل أو على مستوى العلاقات الاجتماعية، كما أنه شخص يحب تخريب أي نجاح وتعطيل أي عمل يخص منافسيه أو من يعتبرهم ضده، لكنه ما إن يشعر بضغط أو حالة ضعف حتى يأتي منصاعًا خانعًا إلى أن تحين له فرصة أخرى. مثل هذه الشخصية، والكلام لـ (أدلر) تسمى بالمزدوجة وهي متناقضة الدواخل، أقرب ما تكون إلى المنافقين، وأقرب الشخصيات لها المزاجية، إذ تأتي كل يوم برأي وتتحول في لحظة من موقف لآخر، شخصية غير ثابتة، ترى صاحبها كل يوم في شأن، لا يكاد يستقر على شيء فيغدو التعامل معه صعباً.
بظني، وأتمنى أن يخيب، فإن المتتبع والراصد للأداء (البيني) للسياسيين السودانيين، يلحظ أن جُلهم يقتربون من الشخصية المشار إليها آنفًا، فهم شديدو العدوانية لبعضهم البعض، لا يسمحون لخصومهم بتحقيق أي نجاح حتى لو كان للمصلحة العامة، وهم فوق كل ذلك (كل يوم في شأن) يتحولون بين غمضة عين وانتباهتها من موقف إلى آخر مناقض دون أن يرف لها جفن.
أما يلي، القصص بعاليه، التي توسل بها كلٍّ من الزميلين العزيزين (عادل ولينا)، للاستدلال بها على ما يعتقدان بأنه إشارات إلى تفشي قيم السلام بين هذه الفئة، فإنني، كلما تفحصتها ومحضتها ومحصتها ودققت فيها، لم أجد بين تضاعيفها ما يشي بذلك، فإكرام الضيف واجب حتى لو كان (خصيمًا مبينًا)، في حالة (الترابي/ خليفة)، أما فيما يلي ابتسامات وضحكات (نقد/ نافع، وأمين ودوسة/ جبريل) الخارجية (وصراتهم) الداخلية (الضارية)، فإن الواقع الماثل شهيد على ما ورائها، ونظريات (أدلر) كفيلة بتفسيرها.