يوسف عبد المنان

الدولة المريضة


“جوبا” لا تتعلم من دروس التاريخ ولا الحاضر وتأبى إلا البقاء حيث انقسمت من السودان واختارت تأسيس نفسها اعتماداً على غيرها.. “جوبا” التي قدمت نموذجاً لدولة السودان الجديد التي قاتل من أجلها المقاتلون لأكثر من ربع قرن، وحينما بزغت شمسها ضاقت بالمقاتلين أنفسهم.. ومات في حرب (سلفاكير ورياك مشار) ثلاثة أضعاف عدد الجنوبيين الذين قتلوا في الحرب منذ 1956 وحتى نيفاشا 2005م. ومما رواه الرواة أن دبابات جيش الرئيس “سلفاكير ميارديت” قد غاصت في وحل اللحوم البشرية لصد هجمات النوير على مدينة “جوبا”، في مجزرة لم يعرفها التاريخ من قبل.
دولة الجنوب بعد أن أرغمها الأفارقة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على التوقيع حاسرة الرأس على اتفاق وقف إطلاق النار، ظن المراقبون أنها قد وعت الدرس وفهمت الحصة الأولى من دروس الدولة الفاشلة.. ولكن لم تتعلم “جوبا” من أخطائها.. وتكف من مشاغبة جيرانها وخاصة السودان الذي يضمر بعض قادة تلك الدولة في نفوسهم مرارة شديدة نحوه.. كأنهم يبحثون عن حرب لتشفي غليلهم نحوه.. وما يحدث الآن من احتضان ودعم وسند لمتمردي الجيش الشعبي إلا دليل على بعض نوايا الجنوبيين السالبة. وكشفت الإذاعة اليوغندية على لسان وزير دفاع دولة الجنوب عن تقديم مساعدات إنسانية لقطاع الشمال الذي تعرض لخسائر فادحة على أرض المعركة.. وتعهدت “جوبا” علناً بتقديم الرعاية الطبية لجرحى ومصابي العمليات.. وطبقاً لما ورد من أخبار أمس يقول شهود عيان إن أكثر من خمسين عربة لاندكروزر شوهدت صباح (السبت) تهرول هاربة من ميدان المعركة، نحو دولة الجنوب التي قدمت تسهيلات لياسر “عرمان” الذي زار عدة مناطق بجبال النوبة قبل العمليات الحالية، مما يؤكد أن رفض الحركة الشعبية للتوقيع على اتفاق خارطة الطريق كان بإيعاز من دولة الجنوب التي وضعت طائرتين مروحيتين في خدمة “ياسر عرمان” وعدد من السيارات.. كل ذلك من أجل شعار رفعته حكومة “سلفاكير (دعم ثوار الحركة الشعبية لإسقاط النظام في الخرطوم)، وهو ذات الشعار الذي تحت رايته دخلت قوات دولة الجنوب منطقة “هجليج” وأخُرجت منها تجرجر أذيال الخيبة والفشل.. واليوم حينما يعلن وزير دفاع دولة جنوب السودان تقديم الدعم الذي تم (تجميله) بعبارة إنساني، فإنه يكشف عن موقف “جوبا” الحقيقي التي تسدد فواتير دفعها بعض أبناء الشمال، حينما قاتلوا في صف الحركة الشعبية لسنوات حتى تحققت للجنوب آماله وتطلعاته في إقامة دولته التي يشقى بها المواطنون في الجنوب أيما شقاء. وقد أشبعتهم قتلاً وسحلاً وجوعاً ومرضاً ولا يزال بعض الجنوبيين في السلطة يفكرون بعقلية قديمة وأوهام لا مكان لها في أرض الواقع، ودعم الحركة الشعبية التي تتلقى الآن الهزائم المريرة وقد تساقطت حامياتها كأوراق الخريف بعد هبوب رياح الشتاء.. وسيطرت القوات المسلحة على (كرجي) حيث المطار والمكان الذي يختبئ فيه “عبد العزيز الحلو” ودقت أبواب طروجي وأم دورين.. ولم تجد القوات المنهزمة سوى اللجوء لدولة جنوب السودان (الحاضن) والداعم المخلص.
ليس أمام الخرطوم من خيار سوى اتخاذ التدابير التي تحفظ لها أمنها القومي على المدى القريب والبعيد، وبيد الخرطوم عصا طويلة قد تمتد لما وراء “سلفاكير” ولكنها الخرطوم كثيراً ما تنتظر شفاء الدولة المريضة من عللها وجرثومة معدتها.!!