التطرف والإرهاب في السودان!!
التطرف، هو الابتعاد عن الوسطية، مع عدم قبول الرأي الآخر، بل وعدم الاعتراف به أو بقائله أو الذي يعتقد فيه، والتطرف هو أول مداخل الإرهاب.. والإرهاب أنواع، منها الفكري والاجتماعي والاقتصادي والعلمي والنفسي والمعنوي والتاريخي والمعلوماتي وغيرها، وهو يسد آفاق الإبداع الإنساني الذي أساسه الحرية والتجريب.
في المادة الثانية من قانون مكافحة الإرهاب بالسودان، عرَّف المشرع الإرهاب بالآتي: (يقصد به كل فعل من أفعال العنف أو التهديد به أياً كان بواعثه أو أغراضه تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي، يهدف إلى إلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم، بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر، أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بالأموال العامة، أو الخاصة، أو اختلاسها أو الاستيلاء عليها، أو تعريض أحد الموارد الطبيعية أو الإستراتيجية القومية للخطر)، وهذه المادة تكاد أن تطابق المادة الثانية من الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب.
لعب السودان دوراً كبيراً ورائداً في مجال مكافحة الإرهاب الدولي، وكان دائماً طرفاً أصيلاً في عدد من المؤتمرات والاتفاقيات الخاصة بمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.. ولموقع السودان المتميز في أفريقيا، واعتباره رابطاً بين العالمين العربي والأفريقي، مع الموارد الضخمة التي يتمتع بها، والمساحة الشاسعة، وتعدده العرقي وتنوعه الثقافي، لكل ذلك ظلت بلادنا هدفاً لكثير من القوى سواء أكانت بالداخل أو الخارج.. وظلت بلادنا هدفاً للإرهاب المعنوي من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، التي حاصرت السودان وفرضت عليه حصاراً محكماً، وعملت على عزله من محيطه ومن العالم، بل وظلت على الدوام تسعى لإجهاض كل مبادرة للسلام ونسفها، بهدف إسقاط النظام، دون اعتبار إلى أن كل الذي تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية يتضرر منه الشعب السوداني في المقام الأول، لا حكومة الخرطوم.
شاءت المقادير أن أكون شاهداً على حادثة إرهابية بشعة راح ضحيتها (20) مواطناً سودانياً، وأصيب (33) آخرون، عندما صوبت نحوهم نيران المدافع الرشاشة عقب صلاة (الجمعة) في أحد أيام فبراير عام 1994م، ونفذها إرهابي (جهادي) هو الليبي “محمد عبد الله عبد الرحمن الخليفي” وسودانيان اثنان كانا معه، عندما بدأوا هجومهم على مسجد أنصار السنّة المحمدية في الحارة الأولى بمدينة الثورة، الذي يؤم المصلين فيه– آنذاك– الشيخ الجليل الراحل الأستاذ “أبو زيد محمد حمزة”، زعيم الجماعة في ذلك الوقت.
كنت شاهداً على الحدث الأليم الذي عشته طلقة بطلقة، ولحظة بلحظة، وقد راح ضحيته عدد من أصدقائي وأبناء الحي، وقد نقلت مشاهداتي كاملة لما حدث للصحافة المحلية والعالمية، مع معلومات خطيرة جمعتها من الذين شاهدوا الجناة والمعتدين قبل أن يصلوا إلى حيث المسجد الذي كانوا يستهدفون خطيبه وإمامه الشيخ “أبو زيد محمد حمزة”، الذي شاءت إرادة الله أن يصلي يومذاك في مسجد آخر بالخرطوم بحري.
تلك الحادثة نبهت الذهن الشعبي إلى أن هناك أموراً مستجدة على الواقع السوداني، وأن واقعاً فكرياً جديداً أصبح جاهزاً للصدام مع ما سبقه من أفكار، وقد ارتبط بوجود زعيم تنظيم القاعدة “أسامة بن لادن” بالخرطوم آنذاك، وقد استهدفه المعتدون أيضاً إلا أن محاولة اغتياله برصاص رشاشاتهم كانت قد فشلت، قبيل أن تلقي السلطات الأمنية القبض عليهم في زمن قياسي وجيز.
طبيعة المجتمع السوداني المتسامح ما كانت تفسح مجالاً لمجرد التفكير حتى في أن حدثاً إرهابياً دموياً مثل ذلك الذي وقع قد يحدث، وقد فتح ذلك الحدث الباب أمام التحوطات لأية أحداث أخرى مماثلة، ونبه أجهزة الدولة إلى خطورة التحولات والمتغيرات الفكرية الجديدة، التي تضخ الدم بدل الحوار، والعنف بدل المنطق.
لا كبير معرفة أو كثير علم لي بتفاصيل إدارات جهاز الأمن والمخابرات الوطني في السودان المرتبطة بمكافحة الإرهاب، لكنني أعرف أن هناك إدارة مختصة تعمل على حماية العقيدة– الأمن العقائدي– وإدارات أخرى لم تعمل على تصفية الذين تطرفوا وحملوا السلاح في مواجهة الغير من مخالفيهم، لكنها اعتمدت وفق توجيهات عليا سياسة الحوار مع الشباب الذين حملوا ألوية التطرف والعنف، وقدمت مجموعة من العلماء ورجال الدين لمحاورة أولئك الشباب، بل وأخذت تسعى لتكريس سياسة الدولة في بسط قيم التسامح والعمل على توحيد أهل القبلة.. واعتماد منهج الوسطية.. ونرى أن الدولة تسير في الطريق الصحيح الذي يبعد أبناءنا وبناتنا عن شلالات الدم، وصحارى الفقر الروحي المدقع.. وعلينا جميعاً أن نعمل من أجل بسط القيم الفاضلة، والتأكيد على مبادئ العدالة، والمساواة أمام القانون وتطبيقها فعلياً حتى لا يشعر أي من أبنائنا بضيم أو ظلم بعيداً عن متاجرة أصحاب الأجندة، أو ساقطي القيد السياسي الذين يحاولون استغلال كل الناس في كل الأوقات من أجل مكاسب شخصية وخاصة تضر ولا تنفع.