الكُرْه الوبائي المُبرر للأقليات (3)
في جميع قارات العالم، هناك أقليات مكروهة، لكونها تسيطر على السلطة والثروة، بينما الأغلبية مهمشة، ولهذا فالصينيون مكروهون في إندونيسيا والفلبين وماليزيا، حتى وهم يحملون «جنسيات» تلك البلدان، والبيض ذوو الأصول الإسبانية والبرتغالية مكروهون في أمريكا الجنوبية.
واللبنانيون في غرب إفريقيا لا يتجاوز عددهم بضعة آلاف، ولكنهم تعرضوا لهجمات واعتداءات عنيفة من سكان دول المنطقة، لأنهم سبقوا غيرهم في اكتشاف المعادن الثمينة هناك، وكعادة فاحشي الثراء، فقد أقاموا علاقات قوية مع أنظمة الحكم الفاسدة في غرب إفريقيا، فكان أن صاروا مكروهين وهدفا لاعتداءات وحشية.
وفي شرق إفريقيا، جاء الهنود في معية الاستعمار البريطاني، وطاب لهم المقام، وقاموا بالتكويش على الزراعة والصناعة والسياحة والصيرفة، فحقّ عليهم غضب الأغلبية الإفريقية الفقيرة، بدرجة أن دكتاتور أوغندا الراحل إيدي أمين، وفي مسعى منه لنيل التأييد الشعبي، أصدر قرارا غير مسبوق، بطرد جميع الهنود من بلاده في غضون شهر واحد مع مصادرة ممتلكاتهم.
وتعالوا ننظر حالة دولة مثل الولايات المتحدة، فرغم أنها «دولة عظمى» ونصّبت نفسها وصية على الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإنها أكثر دولة مكروهة على مستوى كوكب الأرض، وإذا كانت هناك كائنات حية في الكواكب التي مارس فيها الأمريكان التلصص، فلا بد أنها حرصت على الاختفاء عن عدسات كاميرات المركبات الفضائية الأمريكية، حتى لا يستنتج الأمريكان أنها كواكب تصلح لإقامة بني البشر.
ودعك من الأمريكان، وهم أمة تشكلت من مغامرين، بنوا مجدهم على جماجم سكان البلاد الأصليين، الذين صاروا يعرفون بالهنود الحمر – بينما هم لا هنود ولا حمر – وكل ما هناك أن كرستوفر كولمبس – لا بارك الله فيه – كان مطالبا باكتشاف طريق قصيرة الى الهند، فوجد نفسه في ما صار يعرف اليوم بأمريكا الشمالية، ولو تكتَّم على اكتشافه لاستحق جائزة نوبل للسلام عاما تلو عام، ولكن برغم أنه فشل في مهمته الأصلية فإن العالم كله يعمل على تمجيده كمكتشف الأراضي الجديدة.
كل الشواهد تؤكد أنه حتى حلفاء أمريكا في أوروبا يكرهونها، وهل قام الاتحاد الأوروبي إلا لتشكيل كتلة قوية تقابل أمريكا على الشاطئ الآخر من المحيط الأطلسي؟ وهل تم طرح عملة أوروبية موحدة (اليورو) إلا كترياق مضاد للدولار الأمريكي، الذي هو العملة التي تقاس في ضوئها قيمة سائر عملات العالم وسلعه الأساسية ومواده الخام؟
نجحت أمريكا بالتخطيط الاستراتيجي وسياسة النفس الطويل في تدمير منافسها الأوحد الاتحاد السوفيتي، وصارت المُصَدِّر الأكبر لديمقراطية السوق وما يسمى العولمة، وكان هدفها الذي حققته من وراء ذلك تحطيم وتفكيك الدول الضعيفة، أو جعلها مجرد منتج للمواد الخام وسوق للسلع الأمريكية، فكان أن أنشأت البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ثم سيطرت على تقنية المعلومات، ولا يوجد في عالم اليوم شخص لا يتعامل مع مايكروسوفت أو أبل، أو أمازون أو فيسبوك.
وبعد بسط سيطرتها على أسواق المال والسلع والخدمات والمعلومات، كان من السهل عليها أن تسيطر على العالم لغويا، وشيئا فشيئا سيطر الأمريكان على أذواق الناس في كل القارات، فصار مايكل جاكسون أشهر من ماو تسي تونغ في الصين، وليدي غاغا أشهر من غاندي في الهند، وما من عاصمة كبرى في العالم إلا وسعت لاقتناء نسخة من مدينة ديزني الأمريكية المولد والنشأة.
كل هذا وعدد الأمريكان أقل من ثلث عدد سكان الهند، أي أن الأمريكان أقلية وسط أكثر من ستة بلايين شخص في عالم اليوم وبالتالي فهم مكروهون، لأن ما بأيديهم من مال وسطوة وقوة لا يتناسب و«حجمهم الإحصائي».
ولا شك عندي في أن كراهية مختلف الشعوب للولايات المتحدة لها ما يبررها، ولكنها كراهية لا تخلو من «حسد»: كيف ينجح شعب هجين لم يتشكل بعد كأمّة في تسيّد الساحة الدولية و«نحن بنينا سور الصين العظيم.. وشيدنا حدائق بابل المعلقة.. وبنينا الأهرامات وخرمنا التعريفة»؟