قلق أمريكي

اللواء يونس محمود محمد
كالعهد بها، لا يمكن أن تُخيب الولايات المتحدة الأمريكية الظن، وتجافي ما اعتادت عليه من استعداء كل ما هو سوداني، الأمر الذي يؤكد أنها تحت رهن جماعات الصهاينة، الذين يركبونها، ويوظفون مقدارتها كما يركب الأطفالُ الأفيال في بلاد الهند، ويخزونها بالمهماز في المواجع، ويجبرونها على إطاعة أمرهم. وما كادت أجواء الاستفتاء الإداري في دارفور تصفو، وتتهيأ، لتحديد شكل الإقليم إدارياً في عملية أقل ما توصف أنها (ديمقراطية) بما تهوي أمريكا هذا المصطلح. وذلك لإتاحة الفرصة لقاطني الإقليم من إبداء رأيهم، وتحديد الوضع الإداري، إما إقليم واحد، أو خمس ولايات.
حتى ملأ (مارك تونر) نائب المتحدث الرسمي، ملأ شدقيه ببيان في شأن الإقليم وحق السودان، جاء فيه الإعراب عن (القلق) الذي يعتري الولايات المتحدة, ويقضُّ مضاجعها، ويسهدُ ليلها، ويدمي فؤادها، من خطة الحكومة السودانية الرامية لإجراء استفتاء حول المستقبل السياسي لدارفور، وقال إنّ عقد الاستفتاء في مثل هذه الظروف لن يعبر عن إرادة (شعب دارفور)، وأنه يتضارب مع عملية السلام الجارية الآن، وأشار البيان إلى انعدام الأمن في دارفور، وأنّ التسجيل غير كافٍ للسكان، لأن النازحين في المخيمات لايستطيعون المشاركة. وأدان البيان حرمان تصويت (أهل دارفور) الذين يقيمون خارج الإقليم، باعتبارهم غير مؤهلين، مما يهمش الملايين من أهل دارفور!! ثم مضي البيان في ختامه إلى ضرورة حل الأزمة بمخاطبة أسباب الصراع.
الذي يثير التساؤلات حول هذا البيان، بأنه موغل في (الغباء، والسطحية) وعدم الإلمام بتفاصيل ما يجري في السودان، ويفضح (جهل، وجاهلية) أمريكا التي تدّعي أنها تعلم سر الناس ونجواهم، وما من نجوي إثنين إلا وكان (cia) ثالثها, وكل ذلك الوهم جلاه هذا البيان (الردئ)، الذي لا يليق بكبير، أو مدعٍ لكبرٍ أو كبرياء، إذ تتهافت كل أركانه التي بُني عليها مباشرة، بمقابلتها بصريح الحق القائم في دارفور.
فالأمن الذي قال البيان إنه غير متوفر في دارفور، فتلك هي دارفور خالية تماماً من كل أثر للتمرد، ولأكثر من عامين، لم يستطع التمرد بالقيام بأي أنشطة عسكرية، وأنّ عمليات التسجيل انتظمت كل الولايات بمحلياتها، في الضواحي والفرقان، وحتى المعسكرات، حتى حوت السجلات (ثلاثة ملايين ونصف نسمة) من جملة أربعة ملايين هم من يحق لهم التصويت.
ثم تلا ذلك زيارة السيد الرئيس، ولمدة أُسبوع كامل، طاف خلالها العواصم الخمس، ولعل عين أمريكا أصابها (رمد) أن ترى ملايين الحشود، التي تقاطرت وأعلنت التزامها الوطني، ولكنها (عين السُخط) التي تبدي المساويا. وفي كل هذا الحراك الذي انتظم الإقليم، غاب التمرد تماماً، وعجز عن القيام بأي تهديد مهما قلّ، مما يؤكد أنه غير موجود.
لكنّ أخبث ما جاء في البيان، هو اعتراضه على عدم السماح (لأهل دارفور خارج الإقليم) بالتصويت، بما يفضح نوايا أمريكا في رد السودان عنصرياً، كما فعلت العراق، وقسمته ما بين العرب، والكرد، والسنة، والشيعة، وأشاعت فيه القتل على الهوية، وألقت به إلى أسفل سُلم الفشل والفساد، وهي التي جاءته (كما ادعت) لتبعد عنه دكتاتورية صدام حسين، وتنقله إلى براح الديمقراطية، وجناتها الوريفة, فسرقت نفطه، وملفاته، ومدخراته من الذهب والآثار، وقتلت علماءه، وأذلت مواطنيه في السجون، ومارست أبشع أنواع التعذيب النفسي والجسدي، من خلال اعترافات جنودها أنفسهم. فمن هم أهل دارفور الذين تعنيهم أمريكا في بيانها؟ هل تريد أن يرد في البطاقة الشخصية للسوداني أنه من إقليم كذا؟
وهل تريد كشف الـ (DNA) لتحديد من هو الدارفوري؟
وتنسى حق المواطنه، وأنّ دارفور إقليم سوداني يقطنه من شاء من أهل السودان، وله الحق في التصويت لتحديد مصيره الإداري.
إنّ هذا المستوى من الفهم والمعالجة، لا يأتي إلا من إتصف بغباء شديد، أو يظنُ الناس أغبياء إلى هذه الدرجة. فدارفور يا (مارك تونر) أهلها هم الذين يقطنون فيها, في مدينة، أو قرية، أو فريق، أو معسكر نزوح، بسبب الحرب التي غزتها أمريكا، وهي تراهن على حركات التمرد (العنصرية)، وتضاهي موقفها من الإستفتاء، فاذا كانت الحركات (العنصرية) صادقة في ما تدعيه، فالتنظر نتيجة الإستفتاء لتري إختيار أهل دارفور، هل يريدون إقليماً واحداً عاصمته الفاشر، أم ولايات كما هي الحال اليوم.
وأشدُّ ما يقع على هذه الحركات وأمريكا، أنّ هذا الإستفتاء جاء نتيجة لإتفاقات أبوجا 2006م والدوحة 2011م، وسيدرج في وثيقة دستور السودان، ويحسم المغالطة نهائياً، ويقفل هذا الملف إلى الأبد، إن شاء الله، لأنها إرادة الجماهير, التي لن يزيفها أحد، ولن يجيرها أحد لصالحه كائن من كان، ولاسبيل أمامهم إلا الاعتراف بهذا الوضع، ولن يملكوا حق تبديله مهما طال الزمن، لأنه محروس بقناعات الناس، ومحض اختيارهم، مع وجود القوات المسلحة، التي ألحقت بالحركات الهزائم، وأيأستها من نصر عسكري، أو فرض إرادة بقوة السلاح، وهي تدك الآن معاقل الخونة في جبال النوبة، بعدما نظفت جبل مرة.
البيان الأمريكي، أكد أن أمريكا لا تُريد أن ترى السودان إلا من خلال تصوراتها له، بصرف النظر عن تطورات الوضع، وحالة الاستقرار الأمني، وضآلة أثر التمرد، وانحسار أعماله، وزهد الناس فيه، وبطلان دعواه، وبوار سلعته، وما بقي فيه إلا الارتزاق، ونصيب القيادات من الدعم الخارجي، والمتاجرة بمآسي المتأثرين، وفرض الأتاوات، بدعوى مساهمات التحرير.
الخارجية السودانية استدعت القائم بالأعمال الأمريكي، وأبلغته احتجاج السودان على الموقف الأمريكي، وردت على البيان، ووصفت الموقف الأمريكي بأنه (روتيني) مثلما اعتادت أمريكا بأن تصرح سلباً في كل شأن سوداني، وتأريخها مليء بالأكاذيب، وخلاف الوعد، ونقض العهود مع السودان، منذ اتفاقات أبوجا، ونيفاشا، حيث وعدت أمريكا بإعادة العلاقات، ورفع العقوبات الآحادية الظالمة في حق السودان، دون ذنب أو مبرر، ومضت الإتفاقات، ونفذ السودان مايليه، ولكنّ أمريكا أخلفت الوعد، بل وزادت في تعنتها وعداوتها للسودان.
وبالطبع ليس آخرها بيانها حول الاستفتاء الإداري في دارفور، والذي مضى بأحسن ما يكون، تحت مراقبة دولية، وإقليمية، ومحلية، معتبرة، لم يؤثر فيه الموقف الأمريكي المتناقض، وإلا لكانت شاركت في المراقبة، حتى يتسنى لها أن تقول ما قالت وهي شاهد عيان، أما أن تسبق الأحداث، وتتأول النتائج، وتحتج بما ليس لها، وتفترض فهما عنصرياً لتصنيف أهل السودان، فإنها هنا غير جديرة بالاحترام.
جملُ الاستفتاء مضى بأحماله وآمال أهله، وصدى نُباح الكلب الأمريكي يحملك على السُخرية والتبسم

اليوم التالي

Exit mobile version