تحقيقات وتقارير

خلية أزمة حلايب


اللواء يونس محمود محمد
الأزمة المتطاولة المسماة (حلايب وشلاتين) التي ظلت تراوح مكانها منذ العام 1954م. يسكت عنها الطرفان (السودان ومصر)، ثم ما تلبث أن تطل على الساحة، فتملأها ضجيجاً، ويتقاذف الإعلام الحجارة والألفاظ من وراء الحدود، حتى توكلت مصر أخيراً على الحي القيوم واقتحمت بجيشها حلايب عام 1992م، مستغلة ظروف السودان وانشغاله بالحرب في الجنوب، وتطورات قضية محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا، والحصار المضروب على السودان، والرأي العام المؤلب ضده.
ومن ذلك التاريخ بدأ فصل جديد من إضفاء الملامح المصرية على المنطقة، ورسم السمات، وتأليف قلوب المواطنين بقطع أواصرهم مع الدولة الأم، ومن ثم تقديم الخدمات الضرورية لهم في الصحة والتعليم، ومحاولات غسل أدمغتهم، وإيهامهم بأنهم مصريون، والسعي حثيثاً لتغيير الثقافة وتبديل الزي، وغيره مما سيدعم الادعاء المصري كما يعتقدون.
وفي المقابل ظلت الحكومة السودانية تؤكد سودانية حلايب، وتُلوِح بملف الوثائق المؤيدة لقولها، وسيادتها على المنطقة منذ قبل الإستقلال، إذ جرت الانتخابات الأُولى عام 1954م في دائرة حلايب، ومصر شريكة الحكم مع الإنجليز في السودان، بل وأعانت على الإشراف على الانتخابات في الدوائر الجغرافية بما فيها حلايب.
وعند نشوب أزمة عام 1958م، تراجعت مصر وظل الجيش السوداني في المنطقة يمارس السيادة حتى عام 1992م،
حيث دخول الجيش المصري.
الحكومة السودانية (الطيبة، كما يتتريق المصريون) تميل للحلول الأخوية السهلة التي تراعي حق الجوار، والعلاقات (الأزلية) بين الشعبين، والمصالح المشتركة، والهموم، والتحديات، والمصير المشترك، وما يجمع الدولتين والشعبين من روابط الدين، ومشترك الثقافة وغيرها من الاعتبارات التي تؤجل المواجهة، ولكن الجانب المصري سعي إلى تعجيل هذه المواجهة بخطواته الاستفزازية، وتجاوزه كل تلك الاعتبارات التي في خاطر السودان. بل أصبحت حلايب وشلاتين عند الجانب المصري ورقة إضافية يرفعها عند اللزوم، ليحقق بها (المعادلات الناقصة عنده في الداخل) مثلما يفعل هذه الأيام بزيادة الطرق أن موضوع حلايب محسوم، وأن سفه السودان وحده هو الذي يحمله على التهور والادعاء بأن له حق قديم قي إقليم حلايب، وأن مصر ليست على استعداد حتي لتقف أمام محكمة عدل أو القبول بالتحكيم في هذا الملف. وعلى السوان (أن يركب أعلى خيله) أو هكذا تفسير الموقف.
الموقف المصري الأخير من قضية جزر صنافير وتيران التي تنازلت مصر عنها للسعودية مقابل إقامة جسر، وبضع مليارات من الريالات، أثارت حملة عاصفة داخل مصر على أعلى مستويات النخب، إذ أكد أكاديميون, وأهل قانون، وقادة عسكريون سابقون، ودبلماسيون سابقون، ومتخصصون في الجغرافيا والمساحة وغيرها، أكدوا أن تيران وصنافير (جزيرتان مصريتان) موجودتان في مناهج التعليم والجغرافيا وخرائط القوات المسلحة، وتحث أساتذة القانون الدولي والدستوري بأنه لا يجوز التنازل عن سيادة الأرض مقابل (شوية رز).
وحتى تفسد الحكومة المصرية هذه الحملة التي توشك أن تهز عرشها وتفضح تجاوزاتها، عمدت إلى قضية حلايب، وأدخلتها مباشرة في الحملة المضادة، لتؤكد أنها مصرية وأنها أي (مصر) أعادت ترسيم الحدود البحرية مع السعودية والمياه الإقليمية أمام ساحل حلايب بما يؤكد سيادة مصر على البر قبالة الساحل، وأن السعودية إذ تعترف بهذا الترسيم أنها تعترف كذلك بمصرية حلايب، كما ذكر أحد الدبلوماسيين السعوديين، وهو يعقد المقارنة بين الملفين حيث قال (كما أن حلايب أرض مصرية كانت وديعة لدي السودان، فإن صنافير وتيران أرضا سعودية في وديعة مصر).
وبالطبع أخطأ الدبلوماسي السعودي، الذي حاول استخلاص جزيرتيه كما يدعي، مقابل تقديم اعتراف مجاني للمصريين بأن حلايب أرض مصرية موضوعة أمانة (في صندوق السودان) وحق لمصر استرجاعها متى شاءت. دون أن يكلف هذا الدبلماسي السعودي نفسه عناء معرفة أصول المشكلة حتى يفتي فيها عن علم. ودون حتى أن يراعي (بالذوق الدبلوماسي) حق السودان في الإخاء والجوار ولا نقول المشاركة في (الحلوة والمرة)، ولذلك أقحم نفسه وقرر موقف السعودية بمناصرة مصر في نزاعها مع السودان في أزمة حلايب، دون استماع الطرف الثاني والتأكد من دعواه وما معه من الوثائق الدالة على هذا الإدعاء!!
ولعلها الانتهازية في أسوأ صورها أن يقدم نفسه (شاهد زور) يربت على كتف مصر بأن حلايب مصرية وهو يمد يديه ليستخلص صنافير وتيران، ويقدم بين يدي هذا الاستخلاص بريق (المال والرز) لحكومة مضطرة لأكل الميتة من فرط الضيق والضر الواقع عليها.
الخارجية السودانية أكدت كما تؤكد كل مرة وعلى لسان وزيرها بأن حلايب وشلاتين سودانيتان بالميلاد، والأرض، والإنسان، والملامح، والتاريخ. ووضع اليد لن يفيد مصر في تبديل الحقائق، وتزوير الوقائع، وعلى مصر إن كانت تثق في دعواها عليها بقبول التحكيم أو المثول أمام محكمة العدل حتى تقضي بين الطرفين بالبينات والحجج المقدمة. فإن ثبت الحق لها فسيعترف السودان بذلك، ويغير خرائطه، ويطلب من الأمم المتحدة تغيير الخرائط الدولية التي تتضمن حلايب داخل الحدود السودانية (كما هي الحال في كل خرائط نشرات الأخبار في القنوات العالمية).
أما أن ترفض مبدأ الاحتكام وتقرر وضع اليد بالقوة، وتعمد إلى تمصير المنطقة، ومع ذلك تطلق السنة الإعلام المصري (الوقح) ليكيل بذاءاته للسودان وأهله وحكومته، فإن ذلك (غير مقبول). وسيحمل السودان لاتخاذ إجراءات أكثر نجاعة من تلك النداءات العقلانية التي داومت عليها الخارجية السودانية.
إن أزمة حلايب الآن وصلت (قطة اللاعودة) إلى العقلانية، ونداءات مراعاة العلائق، والأصول، والجوار، وغيرها.
وعلى الحكومة تحمل المسؤولية والشعب من ورائها لحسم هذا الملف، ومداواة هذا الجرح المؤلم (إما بالمعالجة، أو البتر) وفق مقتضى الظروف، والأفضل أن تتكون (خلية أزمة) من كل الجهات المعنية، الخارجية، العدل، الداخلية، الدفاع، الإعلام، على أن تظل (الخلية) عاملة، ومنعقدة، حتى تحقق نتيجة في هذا الملف، الذي توغلت فيه مصر ووصلت اللحم الحي.

اليوم التالي