جملة اعتراضية ..!
«في البدء كانت الكلمة وليس الثرثرة، وفي النهاية لا تكون الدعاية بل الكلمة كذلك» .. جوتفريد بن ..!
اندثرت – بحمد الله – موضة فتاوى المناسبات .. تلك التي كانت تمطرنا بمضامين غريبة على غرار تحريم سفر الرئيس .. تحريم التصويت للشيوعيين والنساء .. تحريم انفصال الجنوب .. تحريم تأدية المرأة لفن “المديح” .. تحريم استخدام صور الفتيات في الإعلان .. إلخ .. إلخ .. توارت تلك الظاهرة دون أن يفعل بنا أحد أولئك الشيوخ والعلماء معروفاً فيفتينا بكراهة حديث القائد السياسي بغير ما قل ودل .. أو حرمة الاستطراد غير المدروس .. أوعدم جوازإقحام الجمل الاعتراضية الخرقاء في الخطب السياسية .. منعاً للفتن القومية وسداً لذرائع السياسةالخارجية ..!
الجملة الاعتراضية هي آفة السياسية السودانية .. يمضي الحديث في أمان الله ثم تعترض طريقه الشعارات والهتافات والحماقات التي يدفع هذا الشعب أثمانها دونما ذنب أو جريرة سوى استسلامه لنهج استعداء العالم عليه إنابة عنه .. حتى كاد المشفقون والعقلاء أن يتنادوا لمظاهرات سلمية في الشوارع منادين بفضائل صمت الكبار ومنددين بمصائب الثرثرة التي تتخطى رؤوس قائليها من الحكام لتنهال على رؤوس المحكومين ..!
كونفوشيوس فيلسوف الصين مجَّد الصمت فقال: “كلمة قلتها رصاصة أطلقتها، فرصة أضعتها” .. والمتنبي العظيم نصَّبه سلاحاً قاتلاً فقال: “وأتعب من ناداك من لا تجيبه .. وأغيظ من عاداك من لا تشاكل” .. وقواعد القانون انتصرت لدوره في تمثيل الكلام فقالت: إن “السكوت في معرض الحاجة إلى بيان يعتبر بيان” .. والسنة النبوية أنذرتنا بأننا سنكب على وجوهنا في النار حصائد ألسنتنا.. عوضاً عن فتاوى المناسبات أفتونا – بالله عليكم – في تطبيق مقاصد الشريعة على جريمة الثرثرة السياسية، والحكم “تعزيراً” على كل سياسي ثرثار ..!
مجلة الفورين بوليسي التي تصدر قائمة بالدول الفاشلة والتي احتل السودان – قبل فترة – المركز الثالث في قائمتها للعام الثالث على التوالي، أصدرت قائمة بأغرب الخطابات التي ألقيت على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبالتالي أكثر الخطباء “جموحاً” ..!
أكبر سياسي ثرثار كان سفير الهند الذي ألقى في مجلس الأمن خطبة مدتها ثمان ساعات موضوعها أزمة كشمير المتصارع عليها مع باكستان وقتئذ .. يليه الرئيس الكوبي فيدل كاسترو الذي استغرق خطابه الذي شجب الإمبريالية الأمريكية مدة أربع ساعات متواصلة .. ثم القذافي ثرثار العرب الذي مزق ميثاق الأمم المتحدة ودعا إلى تسمية مجلس الأمن بمجلس الإرهاب .. وهذه القائمة خير دليل على أن الكلمات الشاردة لا تفنى وأن الجمل الخرقاء لا تموت ..!
ولو فكرت تلك المجلة بإصدار قائمة بأكثر الخطب السياسية المحلية جموحاً وغرابة فلن تجد من هو أكثر جدارة واستحقاقاً بتصدر القائمة من السياسي السوداني الذي يتفوق على غيره بأنه يعتبر الكلام في حد ذاته إنجازاً كافياً لدحر الأعداء والنهوض بعزائم الأمم ..!
ثم نسأل بعدها لماذا ابتلانا الله بتمثيل سياسي – لا يملك حق الفيتو ولا تؤثر قرارات تجارته الخارجية في اقتصاد العالم ولا تغير مواقفه المؤيدة أو المنددة في مصائر الدول، ومع ذلك – يشتكي قادته من سادة العالم الجدد الذين لا يطيقونه لله في لله .. فهل من مُذَّكر ..؟!