بيانات ووثائقمقالات متنوعة

د. مصطفي عثمان إسماعيل : مشاهد ومواقف (3) .. دكتور “الترابي” الذي عرفته


“الترابي” الداعية المجدد (1)

التجديد من حيث تعريف المفهوم: التجديد لغة إعادة الشيء إلى سيرته الأولى (جدد الثوب تجديداً: صيره جديداً.. وتجدد الشيء تجدداً: صار جديداً، تقول: جدده فتجدد وأجده أي الثوب وجدده واستجده: صيره، أو لبسه جديداً فتجدد. والجديد نقيض البلى والخلق) (لسان العرب 3). أما التجديد في الاصطلاح الشرعي، فهو اجتهاد في فروع الدين المتغيرة، مقيد (محدود) بأصوله الثابتة، قال (صلى الله عليه وسلم) “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها” (سنن أبي داود، كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة)، عرف العلماء التجديد في الحديث (بإحياء ما أندرس من معالم الدين، وانطمس من أحكام الشريعة وما ذهب من السنن، وخفي من العلوم الظاهرة والباطنة) (فيض القدير). كما عرفوا المجدد بأنه من (له حنكة رد المتشابهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والدقائق والنظريات من نصوص الفرقان وإشاراته ودلالاته).
المجددون بين الوحدة والتعدد: وإذا كان لا خلاف في تعدد المجددين على مدى الزمان (رأس كل قرن)، فإن هناك مذهبين حول وحدة أو تعدد المجددين في القرن الواحد، المذهب الأول: يقول بوحدة المجدد في القرن التزاماً بظاهر الحديث، بينما المذهب الآخر يرى أن نص الحديث لا يمنع القول بتعدد المجددين في القرن الواحد: يقول “الحافظ ابن حجر” في الفتح ( لا يلزم أن يكون في رأس كل مئة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة وهو متجهٌ، فإن اجتمع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوعٍ من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخصٍ واحدٍ، إلا أن يُدعى ذلك في “عمر بن عبد العزيز” فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها….).
ويقول ابن الأثير ( لا يلزم أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلاً واحداً وإنما قد يكون واحداً وقد يكون أكثر منه؛ فإن لفظة (مَنْ) تقع على الواحد والجمع، وكذلك لا يلزم منه أن يكون أراد بالمبعـــوث: الفقهاءَ خاصة – كما ذهب إليه بعض العلماء – فإنّ انتفاع الأمة بغيرهم أيضاً كثير مثل: أولي الأمر، وأصحاب الحديث، والقراء والوعاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد؛ فـإن كـل قـومٍ ينفعون بفن لا يـنـفــــع بــــه الآخر؛ إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء، ويُتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة أولي الأمر. وكذلك أصحاب الحـديث ينفـعـون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع، والقرّاء ينفعون بحفظ القراءات وضبط الروايــات، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا. فكل واحد ينفــع بغير ما ينفع به الآخر… فإذا تحمل تأويل الحديث على هذا الوجه كان أولى، وأبعد من التهمة، فالأحسن والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعـــةٍ من الأكابر المشهورين على رأس كل مائة سنة، يجددون للناس دينهم..). وورد في فيض القدير( فكان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، والثانية الشافعي، والثالثة الأشعري أو ابن شريح، والرابعة الاسفراييني أو الصعلوكي أو الباقلاني، والخامسة حجة الإسلام الغزالي، والسادسة الإمام الرازي أو النووي. ولا مانع من الجمع فقد يكون المجدد أكثر من واحد. ففي الثالثة من أولي الأمر المقتدر، ومن المحدثين النسائي. وفي الرابعة من أولي الأمر القادر. ومن الفقهاء والخوارزمي الحنفي وهكذا يقال في بقية القرون). والمذهب الذي نرجحه هو الجمع بين وحدة وتعدد المجددين في القرن، بمعنى أنه إذا كان المجدد هو المجتهد المطلق، فإن الاجتهاد المطلق هو أيضا تتفاوت درجاته بتفاوت درجات شموله في التجديد، وهنا يكون وصف الوحدة في حق من هو أكثر شمولاً في التجديد، كما يكون وصف التعدد فيمن هم أقل شمولاً في التجديد.
ضوابط التجديد:
التمييز بين الأصول والفروع: وموقف التجديد الإسلامي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التمييز بين الأصول والفروع، ذلك أن التجديد في الاصطلاح الشرعي، فهو اجتهاد في فروع الدين المتغيرة، مقيد (محدود) بأصوله الثابتة، كما سبق الإشارة إليه عند الحديث عن المعنى الاصطلاحي للتجديد.
التمييز بين الثابت والمتغير: كما أن موقف التجديد الإسلامي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال التمييز بين المجالات الثابتة والمجالات المتغيرة في الإسلام، فالشريعة الإسلامية تشمل العبادات والمعاملات التي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المعاملات الفردية: وتضم الأحوال شخصية وقضايا الأسرة ومعاملات الفرد من بيع وإجارة ورهن وكفالة والمواريث.
أما القسم الثاني: تنظيم العلاقة بين الأفراد في الجماعة: وهو ما يسمى النظم، مثل النظام الاقتصادي والنظام السياسي والنظام القانوني… أما العبادات والمعاملات الفردية فقد فصلها القرآن والسنة، فهي ثابتة لا تخضع للتغيير أو التطور، والأصل أنها لا تخضع للاجتهاد أو التجديد، أما القسم الثاني من المعاملات المتعلق بتنظيم العلاقة بين الأفراد في الجماعة، فقد أورد فيه الإسلام قواعد كلية، وترك أمر وضع قواعد الفرعية للاجتهاد، ولا يعني هذا إلغاء اجتهادات السلف الصالح وعلماء أهل السنة، بل اتخاذها نقطه بداية وليست نقطة نهاية.
مما سبق واستناداً إلى التعريفات المذكورة نجد أن الدكتور “حسن الترابي” تنطبق عليه الكثير من إشارات المجددين وسيماهم الخطاب الوسطي واتساع الأفق والاطلاع الغزير والإلمام العميق بالفقه الإسلامي وفروعه، بالإضافة إلى التنوع المعرفي والاتصال الحضاري لدى شخصية “الترابي” جعلت منه أميز المجددين غير التقليديين في العالم الإسلامي، حركة التجديد والتي كان من أحد عرابيها “د. الترابي” جوبهت بحرب ضروس وإقصاء شبه متعمد من قبل الجماعات المتشددة وتلك المتبحرة في التصوف خاصة من البيوتات الدينية المعروفة، والسودان بحكم موقعه في قلب القارة الأفريقية أصبح بوتقة لتصاهر الحركات الثقافية والحضارية والدينية، وبالنسبة للأخيرة فإن حركات التصوف في غرب وشمال أفريقيا نجدها الأكثر تأثيراً بالسودان وتأثراً به أكثر من الحركات ذات الصبغة السلفية الأصولية. “حسن الترابي” لم يمل إلى أي من المدرستين رغم مصاهرته مع إحدى أكبر الأسر الدينية في السودان إلا وهي (أسرة المهدي) سليلة الإمام “محمد أحمد المهدي” مؤسس دولة المهدية في السودان وأحد المجددين، فـ”الترابي” كان مجدداً إسلامياً سياسياً، استطاع المزاوجة بين السياسة والإسلام، فالإسلام كدين لم يقتصر على الشعائر والعبادات وإنما تعداها إلى شؤون الحكم والإدارة وحقوق الإنسان بصفة عامة وحقوق المرأة على وجه الخصوص لما للمرأة من مكانة عظيمة في الإسلام، وعلى هذا المنوال سار “الترابي” بفكره التجديدي، فكان أكثر جرأة من أقرانه في التعرض للمسائل الفقهية التي يتحاشاها الآخرون من رصفائه الذين ينسبون أنفسهم إلى مدارس التجديد والفكر الإسلامي، ممازجة “الترابي” للثقافات الشرقية والغربية والكتابات المقارنة التي تتناول في عمق الفقه الإسلامي مقارنة بالحضارة والثقافات الغربية والمقدرة العظيمة على الغوص في أعماق الإشكالات الفقهية والتنافرات الحضارية جعلته أفضل من يناظر الفكر العلماني والماركسي في العصر الحديث، ليس من باب التسفيه والإقصاء الصاخب وإنما من باب مقارعة الحجة بالحجة، وله في فقه المرأة باع طويل وإسهام واضح استطاع أن يلجم به المتطاولون على الإسلام واتهامه باضطهاد المرأة.
قال عنه الصحفي “عيسى إبراهيم” في مقاله (في محاسن الترابي): لعل ما يميز فقيدنا الترابي ( يرحمه الله رحمة واسعة ويرفع من قدره إحساسه المبكر بوجود إشكالية تجابه الفكر الإسلامي المعاصر في حركته للمواءمة بين التراث والمعاصرة، وهذه الإشكالية شكلت ومازالت تشكل مأزقاً لحركة الفكر والمفكرين من طبقة الإسلاميين في زماننا المعاش. يقول “د. الترابي” في توضيح هذه الجزئية من الإشكالية ( إن القضايا التي تجابهنا في مجتمع المسلمين اليوم إنما هي قضايا سياسية شرعية عامة، أكثر منها قضايا خاصة، والذي عطَّل من الدين – في رأي الترابي – أكثره يتصل بالقضايا العامة والواجبات الكفائية، أما قضايا العبادات الشعائرية والأحوال الشخصية، فالفقه فيها كثير والذي يحفظه المسلمون في هذه القضايا متوفر بصورة كبيرة ومتداول بينهم، يقول “الترابي” ( أما قضايا الحكم والاقتصاد وقضايا العلاقات الخارجية مثلاً فهي معطلة لديهم ومغفول عنها، وإلى مثل تلك المشكلات يجب أن يتجه همنا الأكبر في تصور الأصول الفقهية واستنباط الأحكام الفرعية، ففي مجالها تواجهنا المشكلات والتحديات والأساليب المحرجة. المشكل عند “الترابي” هي قضية المنهج الذي يزاوج بين القديم والحديث أو بين التراث والمعاصر أو بين الثابت المطلق والنسبي المتحول أو بين الحق الأزلي والقدر الزمني، فالحاجة للتجديد عنده تستدعي منهجاً جذرياً يجدد نظم الحياة الدينية إلى مدى مقدر، أولى المشكلات التي تواجه هذا المنهج الغائب هي العنصر التاريخي أو الزمني في الدين، ويؤكد “الترابي” وجود العنصر الزمني والتاريخي فيقول: قد يتوهم بعض المتدينين أن الدين من حيث تعلقه بالله القديم الباقي لا يخضع في شيء لأحوال الزمن وأطواره ولا نتصور فيه مفارقة بين قديم وجديد من ما نعالجه بالتجديد. يعتقد “الترابي” ( أن الشرائع توالت متناسخة متجددة عبر الزمن في بعض أحكامها لا لتبين خطأ في الشرع، فالبداء مستحيل في حق الله، وإنما تقع الحركة في شرع الله حين يكون الحكم الأول حقاً للزمن المخصوص والظرف المعين، لا حقاً أزلياً، معنى ذلك أن الشرائع تتناسخ في بعض أحكامها استجابة لحاجة النسبي المتحول أو القدر الزمني أو الحداثة أو المعاصرة.
يستمر “الترابي” في تأكيد العنصر الزمني فيقول ( ما يكون لشريعة الله بالطبع أن تنسخ إلا وحي منه متجدداً فإذا جاء أجلها بعث رسولاً جديداً – هكذا في الأصل – ونزل وحي عاقب لتبديل ما أحل الله أو حرم لظرف محدود في أمة خالية.
تتوالى الشرائع – عن الترابي – متحركة مع تقادم الزمن بوحي جديد لا ينسخ القديم إنما يبعثه بعد نسيان ويظهره بعد خفاء أصابه بعد تطاول العهد وتضييع المستحفظين أو تحريفهم، فتأتي الرسالة مصدقة لما بين يديها لتحيي موات الدين أو مصدقة أو مهيمنة لتحي شرع الدين وتكيفه لتطوير جديد يقتضي تعبيراً عن حق الملة الثابت بصور تدين مشروعه غير وافية بمقصد العبادة لله بسبب تحول قاعدتها الظرفية (المصدر : حسن الترابي – قضايا التجديد – معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، الطبعة الثانية 1995م).
اهتم “الترابي” أيما اهتمام بموضوع المرأة، ففي السودان نجح في دفع المرأة المسلمة بأن تمارس دورها في الحياة العامة، ودافع عن قضاياها وجعلها في قلب مشروعه التجديدي، وما من زيارة صاحبته فيها أو حضرت جلساتها معه في السودان مع الحركات الإسلامية الأخرى إلا وكان يسأل عن وضع المرأة. أذكر مرة زارنا الأخ “عبد الوهاب الانسي” القيادي في الحركة الإسلامية اليمنية وكان اللقاء في منزل “الترابي”، وكانت الحركة الإسلامية اليمنية متأخرة في موضوع المرأة، وكانت ترى التريث وعدم الاندفاع واحتد النقاش بين الدكتور “الترابي” يرحمه الله والأخ “عبد الوهاب الانسي” الذي ختم مرافعته وهو يوجه حديثه نحونا ( لكني أراكم قوما تستعجلون)، فرد عليه “الترابي” مبتسماً ( لكني أراكم قوماً تستبطئون).
رحمه الله رحمة واسعة وجزى أخينا “أمين حسن عمر” الذي رثاه قائلاً:
اليوم عاودني الأسى وشـــــــــــــجاني صوت نعاك ليــــت كان نعاني
يا ساعدي ومساعدي ومثاقفي ومسـاعفي من علـــــمك الرباني
أنت الذي أوبت للتوحيد رونقه الــذي قد كان للتوحيد مــنذ زمان
أنت الذي أعطيت للتجديد معناه الذي أغناه من علم ومن إيمان
أحييت معنىً للشــــعائر داثراً وشرحت معنى الحـــــــــــكم والســـلطان
زعموك مبتدعاً لأنك مبـــــــــــــــــــدعٌ فهم الجنـــــــاة ولست أنت الجاني
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) صدق الله العظيم
– نواصل

*وزير خارجية السودان الأسبق، أستاذ العلوم السياسية – جامعة أفريقيا العالمية