الحالة الصحفية
> ضمن أجندة الخبير المستقل لحقوق الإنسان في السودان السيد أرستيد نونوسي، في زيارته الحالية للبلاد، مسألة الحريات الصحفية وحقوقها التي باتت تعد واحدة من أهم حقوق الإنسان، وبالأمس كانت هي المرة الثانية التي يحل فيها السيد نونوسي ضيفاً على مقر الاتحاد العام للصحافيين السودانيين بالمقرن وحقيبته ملأى بالأسئلة، مستفسراً ومنشغلاً ومتسائلاً عن حقيقة الأوضاع المتعلقة بالحرية الصحفية في السودان، ويبحث عن إجابات ليضمنها تقريره الذي يقدمه لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وتغلب على الرجل طبيعة وخصيصة الموظف والخبير الدولي الذي يتعامل بحذر، لا يجرؤ على قول كل شيء، ويطلب معرفة كل شيء!! > بالرغم من أن التحاور مع الخبير تحول في جانب منه إلى جدل بين رؤيتنا لواقع الحرية الصحفية في بلدنا، والخطر الذي يتهدد الصحافة في وجودها وصناعتها بسبب وقوعها بين قطبي الرحى، المتمثل في تحدياتنا الداخلية وأثر العقوبات الأمريكية المفروضة ظلماً على بلدنا وشعبه على صناعة الصحافة وفرص تطورها، إلا أن الصورة التي جاء بها الرجل وأحد مساعديه إلينا شعرنا بأنها تغيرت نوعاً ما، وتفهم ما يدور بشكل أدق، فقد كان صريحاً وواضحاً أنه لا يتلقى معلوماته من طرف واحد، فالعالم بات أقل من قرية صغيرة وتتناثر المعلومات في كل مكان، وتوجد الكثير من التقارير التي تصله من منظمات مجتمع مدني ومراصد صحفية مختلفة ومن تقارير دبلوماسية، والأهم من ذلك تعامل الحكومة المعلن وسلوكها ومواقفها من الصحافة والصحافيين. > ومن غير شك أن أوضاع الحريات الصحفية في السودان مهما كان الموقف منها لا يمكن الإدعاء على الإطلاق أنها بخير مطلق أو في أفضل حالاتها، لكنها في ذات الوقت أفضل من غيرها في محيطنا الإقليمي العربي والإفريقي، وهي جزء من كل، فالخبير المستقل نفسه ابتدر حديثه بأن تحديات ومشكلات الحريات الصحفية موجودة في كل مكان، والحديث عنها والسؤال بشأنها ليس استثناءً يخص السودان. > ولم نكن نحتاج إلى كثير عناء للقول في الرد على كل أسئلة الخبير المستقل، إن قياسات الوضع الصحفي وحرياته تختلف من بلد إلى آخر، لكن هناك اتفاق عام على أن الحرية الصحفية باتت ضرورة قصوى لإشاعة الديمقراطية والحكم الرشيد، وهي عنوان للتطور السياسي أو بالمعنى الأصح هي روح وأوكسجين العملية الديمقراطية، وكل بلد ينظر للحرية من منظاره الخاص نظراً لظروفه وتحدياته وطبيعة التركيبة السياسية والاجتماعية الناشطة فيه، فأي بلد متعدد في مزاجاته متسامح في تقلباته من حالة إلى حالة ويعيش ظروفاً كالتي يعيشها السودان، لا بد أن تنظر فيه إلى قضايا الحريات السياسية والصحفية لحساسيتها وقوة تأثيرها بمنظار أوسع وتقديرات تلامس المعطيات والحقائق لا تزييفها أو إلغائها. > وبدون تشنج أو عصبية مهنية، نحن نعلم أن الرقابة القبلية على الصحافة غير موجودة الآن ورفعت بقرار من السيد رئيس الجمهورية قبل سنوات، ولا يوجد لدينا معتقل صحفي أو صحافي ممنوع من الكتابة، لكن مع ذلك نشعر بأن الحرية الصحفية تحتاج إلى تعزيز أكثر في ظل وجود إجراءات استثنائية تطول الصحف بالإيقاف والتعطيل عن الصدور دون اللجوء للقانون والمحاكم، وهو تراجع صارخ عن كل الوعود المبذولة من الحكومة بصيانة حرية الصحافة وتقليل مخاطر انتهاكاتها، كما أن الصحافة وحريتها لن تكون في يوم من الأيام محل إجماع أو توافق في مقاديرها ومناسيبها بين الحكومة والصحافيين أنفسهم، فلا توجد سلطة في العالم اليوم ترضى عن صحافتها أو لا تخشى تأثيرها ودورها، ولا يوجد مجتمع صحفي يتخلى عن المطالبة المستمرة كل يوم وساعة بتجذير وتعزيز وترسيخ حرية الصحافة إلى أوسع أمديتها ونطاقاتها. > قلنا للخبير نحن قادرون على تسوية أي خلاف حول حرية الصحافة مع حكومتنا بالحوار والتفاوض المستمر والتواصل الذي لا ولن ينقطع، لكن تحدينا الأكبر ومشكلتنا الأعظم أن الصحافة نسبة للعقوبات الاقتصادية الأمريكية، تشهد انحداراً مريعاً بارتفاع تكاليف صناعتها وقلة عائداتها وتناقص دائرة تأثيرها، والصحافيون أنفسهم قل احتكاكهم بالخارج لاكتساب مهارات وخبرات أكثر وتلقي فرص تدريب وتأهيل، ولم يعد الصحافي السوداني قادراً على تطوير قدراته والحصول على برمجيات والوصول إلى منافذ معلومات ومعارف عبر الإنترنت أو شراء الكتب المتخصصة من الخارج ومتابعة مستجدات المهنة وصناعتها، وكله بسبب العقاب الجماعي الذي تعاقبه الحكومة الأمريكية والدول الغربية، وهذا بالطبع يؤثر تأثيراً بالغاً في مهنية الصحافة وحرفيتها.