جعفر عباس

معقول؟ أربع عشرة سنة؟ (1)


شرعت مكرها منذ نحو عام، في أرشفة مقالاتي التي تعود إلى العصر الحجري الوسيط، أي تلك التي كتبتها في عصر ما قبل الكمبيوتر، وفتحت أرتالا من صناديق الكرتون التي تضم آلاف القصاصات، فكانت النتيجة أن أصبت بالسعال الديكي، وهو مرض خلصتني منه أمي في طفولتي ببضع رشفات من لبن حمارة جارنا، وفعلت ذلك على مضض لأنّ أم المعارك (والتي أناديها في وجهها بـ«أم العيال»)، قالت إن تلك الصناديق صارت مساكن للحشرات والهوام وطالبتني بالتخلص منها.
ولم يكن ممكنا أن أواصل التنقيب عن المقالات في تلك الصناديق الكرتونية، رأفة بجيوبي الأنفية، فقررت الاستعانة بصديق، وهل هناك صديق أفضل من غوغل في ظرف كهذا ومهمة كهذه؟ أعطيت إسمي للسيد غوغل ففتح لي نحو نصف مليون باب، ثم أعطيته اسم الدلع الذي فبركته لنفسي في سن متأخرة (أبو الجعافر) بعد أن حز في نفسي أنني لم أحظ بأي درجة من الدلع في طفولتي وصباي، ولك أن تتخيل مقدار سعادتي عندما اكتشفت أنه لا يوجد سوى ابو الجعافر واحد على الإنترنت، هو شخصي في قرابة 400 ألف موقع، بينما تقاسم كثيرون نصف المليون موقع التي ورد فيها اسم جعفر عباس.
ولفت انتباهي أمر عجيب، فمن بين كل عشرة مقالات بحثت عنها، وجدت أن نحو خمسة منها تأتي تحت لافتة «أخبار الخليج»، واكتشفت أن صحفا إلكترونية سودانية هي النيلين والراكوبة وسودان نايل ظلت منذ سنوات تنقل يوميا مقالاتي عن أخبار الخليج، ولم أعتبر ذلك قرصنة، لأنّ تلك الصحف تتمتع بمهنية وجماهيرية عالية لا تحلم بها صحف السودان الورقية، ويا ما لجأت اليها بحثا عن أخبار بلادي أو أفكار وموضوعات لمقالاتي، يعني لطشة بلطشة وحلال على جميع الأطراف.
ورود اسمي في الإنترنت مقرونا بهذه الصحيفة، جعلني أتساءل: كيف حدث هذا وقد كتبت آلاف المقالات في صحف قطرية وسعودية وسودانية ولندنية؟ وللحصول على إجابة اتصلت بالصديق موسى سعيد العضو القيادي في «حركة تحرير أخبار الخليج»، وطلبت منه أن يحاول الاستعانة بأرشيف الصحيفة ليعرف متى بالضبط بدأت كتابة «زاوية غائمة» فيها، فغاب يوما وعاد وأبلغني أن ذلك كان في يوليو من عام 2009، فقلت له: أخطأ موسى وأصاب غوغل، لأنه يورد لي مقالات تحت راية أخبار الخليج لسنوات تسبق عام 2009، وناشدته أن يبذل جهدا أكبر في عملية التنقيب، مطمئنا إياه بأنني لا اعتزم المطالبة بمكافأة نهاية الخدمة (يتم احتساب هذه المكافأة عادة في منطقة الخليج، بواقع راتب شهر عن كل سنة من سنوات الخدمة الخمس الأوائل، وراتب شهر ونصف الشهر عما زاد على السنوات الخمس).
وصدق حدسي، بأن موسى كان بحاجة إلى طمأنة بأن الأمر لا يتعلق بالمال، فقد عاد إليّ سريعا ليفيدني بأن أول مقال لي في أخبار الخليج كان بعنوان: «أوراق اعتمادي» في 21 سبتمبر من عام 2002، فجلست فاغرا فمي: ما حكاية شهر سبتمبر معي، فهو الشهر الذي ولدنا فيه أنا وزوجتي وهو الشهر الذي تزوجنا فيه، وهو الشهر الذي دخل فيه أكبر أبنائي ومن بعده كبرى بناتي الحياة العملية (المحبط في أمر يوم مولدي هو أنه هو نفس اليوم الذي غزا فيه هتلر بولندا فأشعل الحرب العالمية الثانية التي قضت على عشرات الملايين من البشر، كما أنه اليوم الذي غزا فيه مزمجر الجزافي ليبيا واحتلها لـ42 سنة).
ولكن ما أدهشني حقا هو أنه لم يحدث قط طوال مسيرتي الصحفية أن عملت محررا متفرغا أو كاتبا «متعاونا» في صحيفة لأكثر من نصف المدة التي قضيتها مع أخبار الخليج.