يوسف عبد المنان

خربشات الجمعة


(1)
مثلما يتنافس الأطباء والمهندسون والصحافيون والكُتاب.. والمزارعون والرعاة، فإن داخل المهنة الواحدة هناك تنافس بين أطباء الأطفال والنساء والتوليد.. والمحررون والتقنيون.. ويباهي رعاة الإبل بمقاومة الناقة للجوع والعطش.. وقيل إن (بقارياً) – أي من رعاة البقر – قد أعجبته الآية القرآنية (إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)، واعتبرها شهادة لصالح الأبقار مقابل الإبل التي وردت في القرآن بصيغة التعجب من قدرة الخالق على الخلق والإبداع، حيث ورد في القرآن (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)، وظل رعاة الإبل يباهون بالناقة التي يطلق عليها اسم (بت أم ساق) وكذلك (أم قجة).. وفي هذا اليوم الثاني والعشرين من أبريل يطل علينا فصل النطح، حيث ترتفع درجات الحرارة وتفوق الخمسة وأربعين درجة، وينقضي فصل النطح في اليوم الخامس من شهر مايو بدخول فصل البطين وتعقبه (الثريا)، وفي مدح الإبل وذم الضأن يقول شاعر من البطاحين مجهول الاسم:
وقع مطر البطين للمسادير خسر
وسيد أم قجة على راعي النعاج اتنصر
أمات البهيج بعد النجم مو عصر
ماجابولن العيش للعليقة وقصر
وحينما تهطل أمطار الصيف في فصل النطح أو الحوت تطول أيام الصيف، وغالباً ما يتأخر هطول الأمطار في يونيو.. وتتأثر الأبقار والضأن سلباً بهطول مطر الصيف مما يضطر أصحابها للاستعانة (بالعليقة) أي الذرة (وقش الفول) وبقايا أوراق النباتات الجافة.. ولكن هطول أمطار الصيف يؤدي لازدهار أوراق (الهبيل) و(العرد) و(الكتر).. وترعى الإبل والماعز في غصون الأشجار.. ويفرح الرعاة ويبتهجون.. والرعاة يعتبرون أبقارهم وإبلهم و(ضأنهم) وماعزهم، مثل أبنائهم الصغار يحبونها حباً جماً.
في الأسبوع الماضي حدثني “عبد المنان أحمد” الشهير بـ(الشاعر) وهو حقاً شاعر مرهف.. ضل طريقه لمهنة الرعي.. عاشقاً للجمال.. كان يجمل حفلات الزواج والمناسبات الاجتماعية بأشعار تتنزل عليه فجأة.. (أي قطع أخضر).. كان الشاعر “عبد المنان” حزيناً جداً.. ومنكسراً.. لأنه اكتشف أن البقرة الصفراء التي يحبها من سويداء القلب، قد تناولت أكياس بلاستيك فانتفخت بطنها.. وهزل جسدها.. وأصبح عسيراً عليها الحركة.. وتلك من مضار البلاستيك الذي أثار جدلاً بين وزير البيئة “حسن هلال” ووالي النيل الأبيض “عبد الحميد موسى كاشا”.. وهنا تبدو المفارقة بين “د. عبد الحميد كاشا” الذي (يفكر) بمرجعية بدوية، و”حسن هلال” ابن المدينة الذي لا تتعدى نظرته للحيوانات أنها مصدر اللحوم والألبان.. “عبد المنان” الشاعر حدثني عن خيارات محدودة أمامه.. أولها وهو الخيار السهل والصعب أن يستدعي الجزار “ود الفايق” لشراء البقرة المريضة برماد القروش؟؟ أو أن يبحث عن طبيب أهلي برع في إجراء العمليات للحيوانات دون (بنج) أي مخدر.. وظل عمنا “حماد دؤاود” يعالج أمراض الحيوانات دون مقابل مادي، وبفطنة البدوي وحكمة الرعاة.. في زمن فتحت ببلادنا العشرات من كليات الطب البيطري، يعجز الأطباء عن إجراء عملية (إخراج أكياس النايلون من أعفاج البقرة)، ولكن هناك من يستطيع ذلك، حيث يقوم عمنا “حماد داؤود” بإجراء العمليات الجراحية للحيوانات، وهو لم يدرس الطب البيطري مثل الآلاف الذين يحملون شهادات جامعية ولا أثر لهم على واقع حياة الرعاة.. في بلد بها وزير للثروة الحيوانية ووزير دولة وحاشية كبيرة من الموظفين (يضطر) الرعاة لعلاج الحيوانات بطرق بدائية توارثوها أباً عن جد، وحينما تمتلئ (أعفاج) الحيوان بأكياس البلاستيك القاتلة.. تموت الأبقار والنعاج، ومن أروع أبيات الشعر التي ورد فيها ذكر (الأعفاج)، أي المصارين ما جاء في ذم أوف بن منصور، وقال فيه الشاعر الجاهلي:
ما كنت أحسب أن الخبز فاكهة
حتى نزلت على أوف بن منصور
حابس الروث في أعفاج بغلته
خوفاً عليه من لقط العصافير..
وفي بلدة طيبة بمحلية (القوز) يوجد عشرات الطلاب من خريجي البيطرة.. وربما هناك قسم للطب البيطري يتبع للمحلية وبولاية (جنوب كردفان) وزارة خاصة بالثروة الحيوانية والسمكية.. طبعاً (مسألة السمك دي) بتعرفها الحكومة وحدها.. مثلما هناك وزارة للثروة الحيوانية في الشمالية، هنا أيضاً وزارة بها إدارة أسماك ربما ينصرف دورها لتعريف المواطنين بأهمية تناول (الكجيك) كمقاوم لأمراض الغدة الدرقية.. ولكن الحديث عن مستشفيات لعلاج أمراض الحيوان يمثل (ترفاً) في بلدٍ لا يجد فيها إنسانها جرعة دواء مُر ليشفى من الملاريا التي هدت قواه.
(2)
في زمان مضى كان المغني “زيدان إبراهيم” يشدو برائعة الشاعر المصري الكبير “إبراهيم ناجي”
داوي ناري والتياعي
تمهل في وداعي
يا حبيب الروح هب لي
بضع لحظات سراع..
وكان السودان حينذاك جزءاً من أعماق الوطن العربي، يقرأ القراء مجلة (الدوحة) و(العربي).. ويكتب عامل في مدرسة حنتوب الثانوية في مجلة (الآداب البيروتية) مع نقاد في قامة “رجاء النقاش”، “ليلى خالد” والشاعر الأديب “حميدة أبو عشر” يبعث بمقالاته إلى “بيروت” وهو الذي غنى له “عبد الحميد يوسف” بأعذب الألحان الشجية (غضبك جميل ذي بسمتك)، ولكن في زماننا هذا انكفأ المعنيون لا على الأدب السوداني فحسب، بل على ترديد القديم.. وجفت ينابيع الشعر والحنان وغاب عن الساحة أمثال “بشير عباس” و”أحمد زاهر”، وأصبح المطرب الأول هو من يشدو في كل الأزمان برائعة “عمر الشاعر” التي كانت أغنية الشباب في سبعينيات القرن الماضي و”زيدان إبراهيم” يترنم بها:
ما هماك عذابنا ولا دموعنا وشقانا..
نهديك المشاعر وتخون الأمانة
عارف ريدنا ليه وكم قاسينا فيه
لو غاب من عيونا دقيقة نخاف عليه
تمشي تخونا أنت تقول تتهنا بيه
بالروعة سعادة الجنرال “عمر الشاعر” الذي يمثل شخصية تجمع بين القلب الشغف والفنان الإنسان وبين صرامة العسكرية، كيف لا وقد كتب “عمر الشاعر” أرق أبيات الغزل في بنك الأغنية السودانية:
سبت مصيرنا ضائع مرساهو العدم
في بحور السراب وفي دمعاتنا هم
عشان آمالنا فيك وقلبنا ما ظلم
خلاص عرفت الحقيقة وما بفيد الندم
ولكن الجنرال الآخر “عوض أحمد خليفة” مدير التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة كان أكثر عذوبة ويفيض حناناً وحباً وهياماً، طبعاً أمثال الجنرال “عوض أحمد خليفة” يصعب عليهم أن يرددوا أناشيد هذا الزمان
(أن ترق منا دماء.. أو ترق منهم دماء.. أو ترق كل الدماء)، و”عوض أحمد خليفة” يرفض حتى إراقة المشاعر بالجفا والبعاد والصد والصدود، وهو الذي كتب (دنيا المحبة)، وتغنى بها (ود العباسية) الراحل “زيدان إبراهيم”..
في بعدك يا غالي أضناني الألم
وعشت مع الليالي لا حب لا نغم
وين يا نور عيوني كم طولنا كم
من لمسات حنانك خلاص تمينا دور
أيام مرة خالية من طعم السرور
كل ما غنى شادي ذوبني الشعور
وأقول يا ريت حبيبي لو في الطيف يزور
ذلك الزمان الجميل انصرف وتتالت على وطنا المحن وتكالبت عليه المصائب وذهب “منقو” إلى سبيله ومات في “ود جفيل” حسرة من كان علماً في جغرافية الوطن.. ولم تبق إلا دموع الحزن.
(3)
رغم دموع محلية القوز التي لم تجف برحيل البروفيسور “التجاني حسن الأمين” ووداعه المثير وسكونه بالقرب من شيخه “د. حسن الترابي” في مقابر بري.. إلا أن تلك المحلية تقدم في كل يوم مبادرة جديدة.. وبعد مبادرة الوفاء لمولانا “أحمد هارون” وقافلتها لمدينة الأبيض دعماً للدورة المدرسية في يناير الماضي.. ها هي المحلية تسير قافلة إسناد إلى “كادقلي” دعماً للقوات المسلحة، وهي المحلية الوحيدة في السودان تنهض بمثل هذه المبادرات النابعة من عمق المجتمع ومن معتمدها “المكي إسماعيل” أحد شباب المؤتمر الوطني الذين يمثلون شمعة مضيئة في عتمة “جنوب كردفان”.. وحينما يتقدم المجتمع على الحكومة والدولة تخرج مثل هذه المبادرات النادرة.. وكل جمعة والجميع بخير