تحقيقات وتقارير

رحل بعد أن أثرى الساحة الفنية بدرر خالدة .. محمد علي أبو قطاطي: (كنت قايل كل شئ في الدنيا حالي) ..!!


رحل عن دنيانا الفانية أستاذ الأجيال الشاعر الفحل الفذ محمد علي أبو قطاطي صباح أمس الأول ووري جسده مقابر العجيجة شمال أمدرمان عند الساعة الثانية والنصف من ظهر أمس الخميس، ويعتبر أبو قطاطي مرجعاً مهماً للشعراء الجدد وملهم للفنانين وكتب أغنيات وقصائد خالده، رحمة الله رحمة واسعة.
ولد الشاعر محمد علي أبو قطاطي بالعجيجة شمال أم درمان في عام 1936م، وأهلها أصحاب خضرة وزراعة وطيبة تحكي حكاوي النيل والجروف على ضفة النيل الغربية.. لذلك نجده تغنى للعصافير والطيور والأمواج.. وقد تكونت شخصية أبو قطاطي الشعرية من بيئة النقاء والجمال في العجيجة، ودرس الخلوة وقام بتثقيف نفسه، وقال في مقدمة ديوانه «درب المحبة» وفي تقدمة عبد الله الشيخ البشير: «لقد استفدت كثيراً من مقامات الحريري، كما أعجبت بأشعار عنترة وابن الفارض والمتنبئ وشوقي، ومن السودانيين التيجاني يوسف بشير والحردلو وخليل فرح، وكذلك محمد المهدي المجذوب». ومحمد علي أبو قطاطي رقم مهم في خريطة الغناء السوداني وصاحب بصمة واضحة. ويمكن أن نطلق عليه شاعر القرية أو الريف لبساطة كلماته وعمقها وجوانبها الجمالية وارتباطها بالماء والزرع والنسيم وهدوء المكان بتفاصيله.. ونطالع من قصائده:

لما القماري يدوبو بأحلى الغنا والساقية تترنم بمقطوعات رصينة ملحنة والقيف تجيه الموجة هايمة ويحضنا جوة الضمير تغمرني حالات انتشاء..
ويكفي محمد علي أبو قطاطي في روعة إبداعه أغنية: الفينا مشهودة عارفانا المكارم نحن بنقودها والحارة بنخوضها التي تغنى بها كروان وعندليب السودان عبد العزيز محمد داوود. وأبو قطاطي مصور في أشعاره ويرسم بالحروف والكلمات لوحات رائعة الجمال ويقول: قمر العشا لامن عبايتو الصافية في الكون يفرشا يلمس مشاعري وينعشا وفي صورته بتذكر وجينات الرشا..
وتتجلى البادية في الساقية، وتتضح رومانسية الشاعر أبو قطاطي وتعلقه بالقماري كطيور جميلة، وتنداح كلماته ألقاً وروعة في أصواتها:
لما القماري يقوقو بأحلى الغنا..

ونلحظ تعلقه بالدوباى والقوقاي، ومرة يقول يدوبو ومرة يقول يقوقو، والدوباي والقوقاي لدى القماري من جميل الغناء عند أبو قطاطي، ويصف أبو قطاطي بنت الريف في ذوق جمالي: آسرانا بالدم الخفيف والرقة في لهيجا الظريف بسماتها زي برق الخريف هالة القمر تشبه خديدها..
وقد شكل أبو قطاطي ثنائية منتجة وفاعلة مع الفنان خليل إسماعيل ونجد (الأماني العذبة): الأماني العذبة تتراقص حيالي والأمل بسام يداعب في خيالي حلم بكرة وذكرى أيامي الخوالي.. وأغنية «درب المحبة» التي شدا بها أحمد الجابري أيضاً من نظم أبو قطاطي: “إنت يا قلبي المتيم كنت خالي كنت نايم ما رأيت سهد الليالي كنت قايل كل شي في الدنيا حالي”.. ونلحظ كلمة حالي لا يستخدمها السودانيون، ولكن جاءت في سياق وزن القصيدة عند أبو قطاطي بحذق لغوي جميل ومؤثر، وقد كانت قصيدة «المرسال» علامة مضيئة في أشعار أبو قطاطي، وأضاف لها الفنان محمد عثمان وردي تفصيلات موسيقية جعلتها تكون على كل لسان لدى الأمة السودانية وفيها: “مسكين البدأ يأمل وأمله يغلبو تحقيقو العاشق الجفا المعشوق وا سهرو ونشاف ريقو أمش قول ليه يا المرسال عساه يراعي ملهوفو حبيبك بي وراك جارت عليه وخانته ظروفو فقد صبره وشرد نومه لهيب الشوق حرق جوفو”.. ونرى الصدق لدى المشتاق والشوق والحنين لدى أبو قطاطي من خلال كلماته المنتجة شعراً، ومن خلال «أسمح زي» التي تغنى بها وردي نجد أن أبو قطاطي زاوج بين الطبيعة والحب في معانٍ ودلالات عميقة تجسدت في: “سواة العاصفة بي ساق الشتيل الني فعل السيل وكت يتحدر يكسح ما يفضل شي دا كان حبك وكت حسيتو شفت الدنيا دارت بي وكت شفتك شعرت بالرعشة من صوف رأسي لي كرعي ومن الساعة ديك يا السمحة ولع فيني جمر الغي”.. فكلمات أبو قطاطي تصور المحب الولهان المتيم بمحبوبته في ردة فعل وقتية فعلت به فعل السحر الى أن يقول في أسمح زي: “صعيب وصفك لأنك هالة كلك ضي فوقك هيبة وأجمل قامة وأسمح زي”.. وقد نظم أبو قطاطي مئات القصائد وهو يحمل قلبه الطاهر النقي بين يديه عاشقاً فرحاً منتشياً بالحبيب، ثم مرة حزيناً مهزوماً في قصائده. ولعله في هذه الأبيات يزاوج بين الفرح والحزن لدى العاشق: “جيت لقيت باب الغرام فاتح دخلت ومن شراب الريدة يا مسكين نهلت وابتديت يا قلبي تعشق وانشغلت كنت جاهل العشق ظنيتو ساهل إلا يا ريتك عرفت وما جهلت”.. ونتلمس في أشعار أبو قطاطي فضاءً جمالياً طليقاً، وبه تسامٍ روحي يتمثل في براءة العاشق وتصوير عذاباته. وما أجمل وما أروع كلماته بعناصرها المتشبعة بجمال وسماحة البادية وسماحة وجمال الإنسان السوداني وإنسان العجيجة نموذجاً.. وأبو قطاطي أسهم في ترقية الغناء السوداني والذوق السوداني بكلماته التي ظل يشدو بها منذ بداية الخمسينيات وإلى تاريخ وفاته، ناشراً الفرح والجمال لأنه من أروع المغنين في السودان.

بروفايل أعده: نعمان غزالي
صحيفة الجريدة