يوسف عبد المنان

خربشات (الجمعة)

{ نشرت الهيئة التشريعية القومية ممثلة في فرعيتها بجنوب كردفان، إعلانات في الصحف السيارة عن لقاء حاشد قيل إنه من أجل جنوب كردفان ونهضتها الاجتماعية، أي لمعالجة مشكلات الذين أجبرتهم الحرب على الفرار وحداناً وجماعات ينشدون الخلاص الفردي من جحيم جنوب كردفان الجغرافية، الذي بات الوضع فيه فوق طاقة الاحتمال منذ النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم باستثناء هدنة سنوات الفترة الانتقالية التي بدأت باتفاق سويسرا لوقف إطلاق النار وانتهت بيوم أسود عرف بيوم الكتمة أي (ستة ستة) عام 2011م حينما اندلعت الحرب مجدداً وضربت عميقاً في عظم المجتمع.. ومزقت أحشاء إنسان ممزق أصلاً.. وكسرت العظم الهش ولا يزال الليل طويلاً والظلام قاتماً والمستقبل مجهولاً والدماء تسيل والرصاص يحصد أرواح الأبرياء بلا شفقة ولا رحمة!! وممثلو الشعب في البرلمان حينما يعودون للمواطنين ويسألونهم عن أوضاعهم أو يبلغونهم بما يحدث على صعيد السياسة والتشريع، ويحدثونهم عن المستقبل، مستقبل المنطقة ومستقبل السلام ومستقبل الحرب.. ومستقبل الأجيال التي ولدت في “الخرطوم” وأرواحها معلقة بتلك الجبال الشوامخ أو هكذا يفترض أن ينحو خطاب النخبة السياسية التي تصف نفسها بالقيادات وهم على صلة وثيقة بقيادة الدولة وجهازها السياسي والتنفيذي.. وحددت الهيئة البرلمانية رعاية اجتماعها السياسي اليوم بقاعة الصداقة البروفيسور “إبراهيم أحمد عمر” رئيس البرلمان.. وحددت المهندس “إبراهيم محمود حامد” ليشرفها حضوراً وكذلك الوالي الدكتور لواء أمن مهندس “عيسى آدم أبكر”.
ولم تكشف لنا الهيئة عن أهداف الحشد الذي تمددت دعوته لنحو ألفين من الرجال والنساء.. هل تقول الهيئة كلمتها عن المستقبل السياسي لمنطقة جبال النوبة.. وهل خيارات المواطنين في الولاية الجغرافية والولاية الاجتماعية مع الحل السلمي أم الحل العسكري لقضية سياسية في الأساس؟؟.. وهل للجنة التي تفاوض في اللقاءات المتعددة بين الحكومة ومتمردي الجيش الشعبي تفويض من الأهالي يحدد سقوفات الممكن وغير الممكن؟؟.. وإذا كانت منطقة جبال النوبة هل من أولى المناطق في السودان التي دعت وساندت وحملت السلاح من أجل الحكم الفيدرالي الذي يمنح المنطقة حكم نفسها والاعتراف بالخصوصية الثقافية والاجتماعية لشعب المنطقة؟؟.. هل الحكم الاتحادي الحالي الماثل أمامنا بقبضة المركزية يمثل خياراً لهم.. ولنا.. ولكم؟؟ وهل منهج التعيين الحالي قد حقق أي قدر من الرضا؟؟.. وإلى متى هذا الخيار؟؟.. طبعاً الوالي الذي ربما يتحدث في اللقاء أو لا.. غير معني بالإجابة على مثل هذه الأسئلة بقدر ما معني بها المهندس “إبراهيم محمود حامد” إذا سألته النخب (المتنفذة) في البرلمان والحزب.. ولكن أيضاً قد يسأل المواطنون الذين تحشدهم الهيئة النيابية عصر اليوم في قاعة الصداقة، حيث الهواء البارد والمناخ العليل وعلى ضفاف مقرن النيلين و (توتي أم خضاراً شال).. وليس في ميدان البحيرة.. وسوق كرور وحلبة المصارعة في سوق ستة.. ولا ميدان الحارة (41)، حيث يتنوع الوجود الجنوب كردفاني ويتمدد في الأطراف القصية.. وهؤلاء حينما يطلب منهم الصعود لأعلى والحضور لقاعة الصداقة.. ينظرون أولاً لأجسادهم التي أرهقها الكدح ليلاً ونهاراً لكنهم يأتون لملامسة وجوه ناعمة وأخرى نعمتها النعمة.. يسألون هل في جنوب كردفان مشروع قومي يوحد أهلها.. وينظم صفها.. أم أصبح الحال رماداً في رماد وحسرة وألماً.. وأهل جنوب كردفان أو جبال النوبة مثل قوم “الفضيل بن عياض”
إذا قيل لك هل تخاف الله
أسكت
فإنك إذا قلت (نعم) كذبت وإذا قلت لا كفرت..
هم قوم بلادي في محنتهم التي استطالت وليلهم الطويل وفجيعتهم الكبرى.. هل ما يجري الآن في الولاية يمثلهم.. ويلبي أشواقهم.. وهل في النفق المظلم الطويل ضوء.. ولماذا في الشهر الحالي جاء المجلس التشريعي بكامل عضويته يؤدي فريضة الحج في “الخرطوم”؟؟ الوفد الذي لا تزال مؤخرته تنتظر اليوم (الجمعة) المشهودة.. ثم جاء من بعد ممثلي الشعب الجنوب كردفاني في المؤسسة الصغرى.. ممثلو ذات الولاية في المؤسسة التشريعية الكبرى وهم يقولون كلاماً مثل الفل يطرب السامعين من أهل السياسة ولكن الجالسين في مقاهي (كرور) يعالجون اليأس بلعب (الدمنو) والكوتشينة وسيجا.. يحدقون في الفضاء الممتد بين “الخرطوم” و”طروجي” لا يجدون أبلغ من عزاء للنفس في أبيات خطها “أبو العلاء المعري” في زمان بعيد لكنها حية حتى اليوم:
بالقضاء البليغ كنا فعشنا
ثم زلنا وكل خلق يزول
نحن في هذه البسيطة أضياف
لسنا في ذرا المليك نزول
والمليكان ذاهبان مولى
مستجد وراحل معزول
بلى الحبل والغزالة فوق الأرض
لم يبلَ خيطها المغزول
قوموا إلى صلاتكم وهبوا للقاء قادتكم.. فلقاء الأحباب يرطب الكبد ويدفئ القلب.. ويذهب الظمأ في موسم الجفاف الطويل..
(2)
عاد د.”رياك مشار” مثلما عاد “مصطفى سعيد” في رواية موسم الهجرة للشمال للأديب “الطيّب صالح”.. وابتسم ذلك الرجل الستيني في وجه “جوبا” (الشين).. واختار قميصاً أفريقياً مزركشاً بدلاً عن البزة العسكرية التي تركها للجنرال “سلفاكير ميارديت”.. وخرج د.”مشار” حينما أطاح به “سلفاكير” من منصب النائب الأول للرئيس فرفض أن يبقى (مواطناً) عادياً.. لأن الرجل الذي يؤمن بالخرافات.. ويعتقد أن الكجور هو من ينزل البركة ويمد الإنسان بالعمر.. لذلك كان تحالف مع الكجور “رورينق” الذي يملك جيشاً يقول إنه روحي يسمى الجيش الأبيض.. قاتل هذا الجيش مع “رياك مشار”، كما قاتل إلى صفه النوير من فنجاك وواط وأيود وكنقر.. والناصر وملكال وبانتيو وعدارييل.. ودفع النوير ثمن عودة د.”مشار” دموعاً وآلاماً وأكثر من خمسة آلاف قتيل بعضهم (هرست) الدبابات لحومهم، كل ذلك من أجل أن يبقى طائر الشفق الغريب في كرسي السلطة والحكم الذي في سبيله أزهقت أرواح.. ورملت نساء.. وتكاثرت المقابر.. وفاضت المستشفيات بالجرحى.. والصراع السلطوي في السودان الشمالي والسودان الجنوب قديم.. وكل شجرة سلطة نبتت تمت تغذية جذورها بالدم السوداني.. وغسلت ثيابها بالدموع.. الآن يعود د.”مشار” إلى “جوبا” عريساً بلا عروس.. وسلطاناً على شعب أرهقته المصائب.. ليس شعباً مناضلاً من أجل الحرية والاستقلال كما زعم ممثل فلسطين وسفيرها في كلمته التي بثتها وسائل التواصل الاجتماعي وهو يقول إن جنوب السودان نافح وكافح وجاهد وناضل من أجل حريته حتى نالها.. وإن الشعب الفلسطيني يقاتل من أجل الحرية الآن مثل الجنوبيين.. ونحن في السودان لا نملك إلا القول للسفير الفلسطيني شكراً لك وأنت تساوي بين السودان وإسرائيل ونحن (نستاهل) وضعناك (في مكاناً مو مكانك).. وحينما يغسل “مشار” وجهه من سهر ليل “جوبا” القصير سيتذكر كم من الرفاق مات من أجله.. وكم من النساء فقدن الزوج والأخ والوالد والولد.. وحينما يحط “مشار” بأرض “جوبا” نتذكر ما قاله “عبد الواحد عبد الله” الشاعر والأديب والروائي المثقف والمخرج الإذاعي وهو يقول:
بعد العذاب والضجر
بعد النزوح والسفر
تحط العيس رحالها
تمدد الأشجار ظلها
وتغسل النفوس غلها
ونلتقي هناك
في أرضنا الحبيبة
في الساحة الممتدة الرحيبة!!
وكل (جمعة) والجميع بخير.