الجمهوريون بين الوهم والحقيقة (12)
لم نخصص هذا الجهد المتواصل في الحرب على التخليط الجمهوري الذي ابتدعه الزنديق محمود محمد طه، إلا لأن هلاكه لم يقنع الضالين من أتباعه ليعودوا إلى الدين الصحيح وإلى الكفر بتخريف ذلك الشيطان الأشر الذي ضل وأضل، ولو كان مؤيدو محمود محمد طه قد ثابوا إلى رشدهم وتابوا إلى ربهم لما نبشنا تخليطه، ولكن اتباع محمود وبني علمان الذين لم يؤيدوه اقتناعا بتخليطه إنما كيدا للإسلام التوحيدي الشامل أصروا على مواصلة نشر ضلاله وتضليله وفتحوا له مركزا بل وطالبوا بتسجيل حزب يبشر بذلك الضلال، ولذلك نهضنا لكي نتصدى لما يفعلون وتبيين ما ينطوون عليه من كيد وتآمر على الإسلام.
في هذه الحلقة يتعرض د. الباقر إلى قضية مهمة تكشف جانبا من الانحطاط والضلال الذي تردى إليه ذلك المرتد الفاجر .
=====
ولنتناول الآن “الأصل” و”الفرع” في “الفكرة الجمهورية” فإنها أي “الفكرة الجمهورية” تعتبر الجهاد فرعاً انتهى وقته!! أما الأصل فهو السلام، وتحتج “الفكرة الجمهورية” لمنطقها هذا، بأن آيات الاسماح – على حد تعبيرها – من مثل قوله تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) هي الأصل الذي بُدئت به الدعوة إلى الإسلام، غير أن هذا الأصل نسخ، وصودرت الحرية، لما لم تستجب لها أمة البعث الأول، فكانت مصادرة الحرية للمشركين بالسيف وللمؤمنين بالشريعة وهذ الأصل الذي نسخ هو ما سيبعث من جديد في الرسالة الثانية! ويصبح هو الناسخ للفرع.
وأقول: إن الآية الكريمة “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم” من سورة البقرة المدنية تقرر مبدأ إسلامياً يصلح لكل زمان ومكان وهو حرية الاعتقاد؛ لأن هذا الدين – كما يقول ابن كثير في تفسيره للآية الكريمة – بين واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحداً على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونور بصيرته، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، دخل فيه على بينة، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره، فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً.
والقتال في الإسلام شرع لا ليناقض هذا المبدأ – أي مبدأ حرية الاعتقاد – بل ليقرره ويؤكده؛ فالحرب الإسلامية إما أن تكون دفاعا عن الدعوة الإسلامية وحرية حركتها، أو إنها تكون تحريراً للمستضعفين من استعباد الطغاة لهم والحيلولة بينهم وبين دعوة الحق.. ففي كلا الحالين نجد أن القتال وسيلة تحرير للأفراد والمجتمعات، وليس هو وسيلة لمصادرة الحريات كما تدعي الفكرة الجمهورية!!.
وإذا ما نظرنا في الشروط التي تعلنها الدولة الإسلامية قبل أن تعلن الحرب على دولة أخرى وهي التخيير بين الإسلام أو الجزية أو الحرب – لتجلى لنا هذا المعنى. فقبول الجزية، يعني إفساح المجال لحرية الاعتقاد، تحت راية الدولة الإسلامية – فالجزية ضريبة يفرضها الإسلام على غير المسلمين من رعايا الدولة الإسلامية لتقوم مقام الزكاة التي تؤخذ من المسلمين.
فالسيف إذن، لإخضاع الأنظمة الجائرة وجبروتها للإسلام، وليس لإكراه الأفراد والشعوب على الدخول في الإسلام؛ فلا إكراه في الدين. ولنا وقفة في هذا المقام مع شهادة بعض علماء الغرب على التسامح الإسلامي. يقول سير.ت.و. أرنولد في كتابه “الدعوة إلى الإسلام”: “ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفاً عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق، أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حُرة.
ويمكننا أن نحكم من الصلات الودية التي قامت بين المسيحيين والمسلمين من العرب، بأن القوة لم تكن عاملاً حاسماً في تحويل الناس إلى الإسلام. محمد نفسه قد عقد حلفا مع بعض القبائل المسيحية، وأخذ على عاتقه حمايتهم، ومنحهم الحرية في إقامة شعائرهم الدينية كما أتاح لرجال الكنيسة أن ينعموا بحقوقهم ونفوذهم”.
**الانتقال من الشورى إلى الديمقراطية:
تعتبر “الفكرة الجمهورية” هذا المبدأ الإسلامي – الشورى – فرعاً انتهى وقته، والأصل هو الديمقراطية!! والتي تعتبرها مبدأ متقدماً يقوم على الحرية والمسؤولية، في حين أن الشورى تقوم على الوصاية!! إن في هذا لدلالة على أن محمود محمد طه والجمهوريين يجهلون هذا المبدأ الإسلامي الذي يقرره الإسلام بنصوص قطعية الدلالة والثبوت حيث يقول تعالى: “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” ويقول تعالى “والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون”.
ففي هاتين الآيتين ما يشير إلى أنه لا يحسن إيمان قوم إذا لم يقيموا الشورى بينهم، فالشورى فريضة إسلامية واجبة على الحاكمين والمحكومين، فعلى الحاكم أن يستشير في كل أمور الحكم والإدارة والسياسة والتشريع، وكل ما يتعلق بمصلحة الأفراد أو المصلحة العامة، وعلى المحكومين أن يشيروا على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل كلها سواء استشارهم أم لم يستشرهم… غير أن الشورى ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بنصوص التشريع الإسلامي وروحه – فما جاء فيه النص خرج عن نطاق الشورى، إلا أن يكون المقصود من الشورى تنفيذ ما جاء في النص، أما ما لم يرد فيه نص، فكله محل للشورى شريطة ألا يخرج الرأي عن مبادئ الإسلام العامة وروحه التشريعية.
والسؤال الآن: ماذا تعني مقولة “الفكرة الجمهورية”: “الشورى تقوم على الوصاية؟! هل تعني بهذه المقولة إن الشورى مبدأ يلتزم ويتقيد بنصوص الاسلام وروحه التشريعية؟! هذا من جانب، ومن جانب آخر ماذا تعني مقولة “الفكرة الجمهورية”: “الديمقراطية هي الأصل لأنها تقوم على تقرير الحرية والمسؤولية”؟! إذا كانت الحرية والمسؤولية تعني للجمهوريين عدم التقيد بالنصوص الإسلامية، فهذا يعني أن الديمقراطية لا علاقة لها بالإسلام؛ وبذا فلا يجوز لهم أن يعتبروها مبدءاً إسلامياً، بل إنها من المبادئ التي تمثل قمة الدين بزعمهم!!.. أما إذا كانت الديمقراطية تعني بحث الأمور دون الخروج على نصوص التشريع الإسلامي أو روحه التشريعية، فإن الديمقراطية بهذا الوصف، لا تعني شيئاً آخر سوى الشورى كما يقررها الإسلام.
إن “الفكرة الجمهورية” حيث تقرر مبدأ الديمقراطية كبديل للشورى، فهي إنما تسعى إلى التحلل من التشريع الإسلامي، وتحكيم الهوى، كما يحدث الآن في النظم الديمقراطية المعروفة، والتي نستطيع أن نقول إنها فشلت فشلا ذريعا في تطبيق مبدأ الشورى لسببين: أولهما أنهم يؤثرون المنافع الشخصية، والعصبيات الحزبية، على المصالح العامة. وثانيهما أنهم يسمحون للأقلية أن تناقش الرأي الذي أقرته الأغلبية بعد انتهاء دور المناقشة، وإن تشكك في قيمته وصلاحيته أثناء تنفيذه، بل إن الرأي يظل موضع الانتقاد والسخرية حتى بعد تمام تنفيذه..
مما يذكر هنا أن “الفكرة الجمهورية” تتناقص مع منطقها – وهو أمر يلازمها في معظم مقولاتها – حين تزعم أن الشورى هي الفرع والديمقراطية هي الأصل!!.. فإذا كانت الفروع – في الفكرة الجمهورية – هي القرآن المدني.. وإذا كانت الأصول – عندها – هي القرآن المكي.. فإن التناقض يتضح إذا ما علمنا أن الآية الكريمة (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) هي من الآيات المكية!! إن منطق “الفكرة الجمهورية” كان يقتضيها أن تعتبر هذه الآية الكريمة من آيات الأصول، لأنها من القرآن المكي!! أي من أصول القرآن” بحسب زعم محمود والجمهوريين!!.