احمد يوسف التاي : أمراض اجتماعية
ثمة أمراض اجتماعية هي أشد فتكاً وأعظم خطراً على المجتمع، أكثر من أي أمراض أخرى، لكون أن “الأخرى” سواء أكانت جسدية أو نفسية يمكن معالجتها لسهولة التعرف على أعراضها بسهولة، لكن الأمراض الاجتماعية ذات الارتباط بالتكوين النفسي تظل هي الأكثر تهديداً للحياة الطبيعية المستقرة الآمنة.
إذا أخذنا مثلاً “حب المظاهر”، أو ما يعرف في مجتمعنا السوداني بـ ” الفشخرة “، فإن المصاب بهذا المرض سيكون مشغولاً طوال حياته بجذب انتباه الناس إليه، إما بكثرة الحديث عن نفسه وإظهارها بالمظهر الذي ينبغي ألا ينافسه فيه أحد داخل المحيط الذي يعيش فيه، وذلك برسم صورة خيالية لشخصيته، صورة غير حقيقية تتناقض مع شخصيته الحقيقية تناقضاً تاماً، فتراه يطنب في ذكر محاسن نفسه، وشهامته ومناقبه في “الوهم” إذا كان لا يملك أدوات مادية للفت الأنظار غير الانشغال بتمييز نفسه عن الآخرين ووضعها في مكانة تليق بها حسبما رسمها خياله.
أما إذا كان ذا قدرة مالية سيعمد إلى جذب انتباه الناس إليه باقتنائه الأشياء الثمينة، كارتداء أفخم الثياب والمبالغة في ذلك لدرجة لافتة، أو شراء السيارات الفارهة والانشغال بتغيير “الموديل”سنوياً وتبديل الأثاثات والاهتمام بكل ما يقال عنه إنه “موضة” حتى لو أن هذه الموضة تجلب الاشمئزاز وتنفر منها الأذواق السليمة، وإذا كانت امرأة مصابة بهذا المرض الاجتماعي ستجتهد في لفت الانتباه إليها بلبس الحلي والمجوهرات مثلاً، بطريقة شاذة جدًا، وكلما تمكن مثل هذا المرض من وضع ضحيته تحت براثنه استسلم المريض تماماً وأصبح “المرض” عادة ونمط حياة لن يتنازل عنه أبداً.
المجتمع نفسه سيظل يلعب الدور الأكبر في إعطاء مناعة كافية للفيروسات التي تسبب مثل هذه الأمراض، وذلك عندما يعمد إلى تقييم الناس بمظهرهم الخارجي فقط، وإغفال جوهرهم الذي قد يخفي درراً وأحجاراً كريمة، وعلماً وفقهاً ومعرفة، لذلك يأتي حكم المجتمع داعماً لهذا المرض وممكناً له، بدلاً عن الإسهام في العلاج، ويظل المجتمع هو الآخر مخدوعاً بالمظهر الأجوف، ومتغافلاً عن الجوهر “الثمين” وهي ذات الخديعة نفسها التي وقع في فخها الإمام أبو حنيفة حينما لفت انتباهه وبهره المنظر الخارجي لجهلول تخفي ثيابه الفاخرة خواء رجل تملكه الغباء حتى أخمص قدميه وحينما سأل سؤالاً افتضح جوهره حيث كان أبو حنيفة يجلس مع تلاميذه في المسجد، وكان يمد رجليه بسبب آلام المفاصل، وكان قد استأذن طلابه أن يمد رجليه لأجل ذلك العذر كما تقول الرواية التأريخية المشهورة، وبينما هو يقدم الدرس لتلاميذه، إذ جاء إلى المجلس رجل عليه علامات الوقار بفعل الثياب الفاخرة التي كان يرتديها، فما كان من أبي حنيفة إلا أن جمع رجليه إلى الخلف ثم طواهما وتربع تربع التلميذ أمام ذلك الشيخ الوقور وقد كان يعطي درساً عن دخول وقت صلاة الفجر.
فقال الرجل لأبي حنيفة دون سابق استئذان: يا أبا حنيفة إني سائلك فأجبني، فشعر أبو حنيفة أنه أمام مسؤول رباني ذي علم واسع واطلاع عظيم فقال له: تفضل واسأل..
فقال الرجل: أجبني إن كنت عالماً يُتَّكل عليه في الفتوى، متى يفطر الصائم؟ ظن أبا حنيفة أن السؤال فيه مكيدة معينة لا يدركها، فأجابه على حذر: يفطر إذا غربت الشمس.
فقال الرجل: وإذا لم تغرب!! وبعد أن تكشّف الأمر وظهر ما في الصدور وبان ما وراء الثياب قال أبو حنيفة قولته المشهورة: آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه.. اللهم هذا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق أنه يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين.