يوسف عبد المنان

خربشات (الجمعة)


{نشاط وسائل التواصل الاجتماعي بات يغطي على خمول أجهزة الإعلام التقليدي.. وفي كل يوم تكتسب هذه الوسائط أهميتها.. خاصة مع التراجع الكبير في دور الصحافة الورقية بسبب الرقابة المفروضة عليها والتضييق الذي تتعرض له.. وعالمياً أغلقت بعض الصحف نسخها الورقية.. مثل مجلة (أخبار الأسبوع) الأمريكية بعد أن أصبحت الأخبار على مدار الدقيقة والثانية.. في هذا الأسبوع بث نشطاء معارضون خبراً عن وفاة الأستاذ “علي عثمان محمد طه” في السعودية.. ولكن المصور “كمال عمر” لوحده استطاع أن ينفي الخبر بحسه الصادق وهو يلتقط صورة لـ”علي عثمان” داخل قاعة الصداقة معانقاً الأستاذ “حسن عبد الوهاب” في يوم تكريمه بقاعة الصداقة.. والمناضلون والمناضلات في الفضاء الإلكتروني يرغمون والدة الطالب الشهيد “الصادق” على جرح قلبها المجروح والحديث عن مقتل فلذة كبدها.. في يوم حزنها الكبير لاستغلال أحزانها وقطرات دموعها لإسقاط النظام.. والذين من وراء هؤلاء يغطون في نوم عميق.. وخير دليل على ذلك صورة بثت على نطاق واسع للأستاذة المناضلة “سارة نقد الله” وهي (تأخذ ليها غفوة) في إحدى اجتماعات المعارضة، بعد أن وضعت نظارتها في حجرها مثل ما تضع المرأة طفلها.. وتغفو قليلاً من رهق النضال وسهر المعارضة، خاصة وحزب الأمة قد ترك غياب الإمام السيد “الصادق المهدي” ثغرة يصعب (سدها)، والأميرة “سارة نقد الله” حينما (تأخذ غفوتها) عز الصيف.. أنها تجسد حالة الشيخوخة في الأحزاب الكبيرة ببلادنا.
ولأن مناخ الشائعات في أبريل هذا العام غطى على كذبة الشهر نفسها بثت وسائط التواصل (خبراً مختلقاً) عن زيادة أجازها مجلس الوزراء في اجتماع قيل إنه انعقد يوم (الاثنين)، وجاء الخبر المضروب بأرقام عن الزيادات لا يصدقها عاقل.. وأول ثغرة تركها ناشر الخبر المضروب أن مجلس الوزراء لا يجتمع إلا يوم (الخميس) أسبوعياً.. وقد أقلع عن اجتماعات يوم (الأحد).. لذلك يبدو (مطلق الشائعة) (دقة قديمة).. مثل الأخ “عبد الجليل الباشا” القيادي المحترم جداً في حزب الأمة، حينما اختلط عليه (العيسيان) أي “عيسى آدم” و”عيسى بشرى أفندي” وكلاهما يسبق اسمهما صفة دكتور.. وفي حديثه أمام احتفالية الهيئة البرلمانية (الجمعة) الماضية بوالي جنوب كردفان، قال “عبد الجليل” نشكر الأخ الوالي د.”عيسى بشرى”.. ضجت القاعة بالضحك وبهت الرجل واستدرك أن الوالي الحالي اسمه “عيسى آدم أبكر” وهناك أيضاً “عيسى أبكر” وزير مالية النيل الأزرق، لكن د.”عيسى بشرى” كتب لنفسه تاريخاً لن تمحوه الأيام والليالي وكان قائداً سياسياً فذاً.. وهو ينوب عن الوالي في الفترة الأولى من عمر الفترة الانتقالية.. وفي تلك الفترة لم تعرف الدنيا وسائل التواصل الاجتماعي التي فرقت بين الأخ وأخيه.. ومزقت أحشاء المجتمع.. ودقت مسماراً في نعش الصحافة الورقية في بلدنا السودان حيث تعيش الصحافة السودانية الآن أسوأ أيامها وتتعرض لضغوط ما أنزل الله بها من سلطان وضعف في التوزيع وتمدد في قائمة الأخبار الممنوعة من النشر، حتى أصبح الصحافيون يسألون رؤساء التحرير عن قائمة الأخبار المسموح بنشرها.
(2)
{الإنسان العادي هو ذلك الكادح في الطرقات البعيدة عن الأضواء والمواقع الرسمية ولا يمد يده لحقوق غيره.. ولا يسعى لشهرة أو ثروة أو جاه وسلطان.. وبعض الناس تتقمصهم مناقص وجهالات يشعرون بأنهم متميزون عن بقية خلق الله!! يقول لك الجاهل أنا ابن فلان ومن أسرة فلان وجدي فلان وتلك من سمات الجاهلية الأولى والجاهلية الثانية.. والفاشلون في حاضرهم هم الذين يستحضرون الماضي.. بعض نجوم المجتمع يعتقدون أنهم مميزون عن غيرهم.. المدرب البرتقالي الفذ “مورينهو” من الشخصيات التي تعيش في أبراج عاجية.. والنجاحات التي حققها في حياته حتى أصبح أفضل مدرب في العالم جعلته يعيش أوهام التميز، فأطلقت عليه الصحافة الإنجليزية صفة الرجل الاستثنائي، وأخذ يمشي في الأرض مختالاً كأنه يخرقها أو يبلغ جبال الألب طولاً.. وحينما عين المدرب الألماني “يورغن كلوب” مديراً فنياً لفريقه ليفربول العريق سألته الصحافية “سالي استيفن” أشهر إذاعية في (البي بي سي)، وقالت من أنت، ولأن “يورغن كلوب” ذكي جداً قال لها إنه الرجل العادي (نورمال مان) واحترمت الصحافة الإنجليزية المدرب الألماني الكبير رغم أن الألمان بطبيعتهم يشعرون بالتميز عن الآخرين من الأوروبيين دع عنك (ناس قريعتي راحت).. والمال والسلطة والجاه والإعلام يجعل حتى الموت مختلفاً هناك الموت الصاخب والموت الصامت.. هناك ميت تبلغ فاتورة نعيه في الصحف ما يفوق المائة ألف جنيه، وهناك من عاش مائة عام ولم ينم يوماً وفي جيبه ألف جنيه.. العاديون من الناس ملح الأرض.. الجانقجورا.. والكتكو.. والعمال والزراع بين الحقول في الصباح.. والرعاة.. من هؤلاء غيب الموت يوم (الاثنين) الماضي إثر حادث حركة مفجع، الأخ “الزين علوي”.. الراعي والمزارع والقائد المجتمعي في مسقط رأسه منطقة مناقو بأقاصي جنوب كردفان. عرفت “الزين علوي” وأنا راعٍ بالأبقار في تلك المنطقة وهو صاحب ثروة طائلة.. وفتوة وشموخ وكبرياء.
يرقص النقارة والمردوع وتهفو إليه قلوب الفتيات حينما يأتي إلى (الدونكي) الوحيد يرتدي عراقي التترون الياباني ويمتطي حماراً له زفير وشهيق.. كان “الزين علوي” شاباً استثنائياً ورث ثروة مالية طائلة.. ولكنه عاش بين الناس متواضعاً كريماً شهماً أخذه الموت في حادث حركة مفجع في طريق الدلنج الدبيبات، وشيعه المئات بالدموع ليغيب عن دنيانا واحد من رموز تلك المنطقة.
(3)
{المدير العام لشركة الخطوط الجوية السودانية التي بلغ عمرها أكثر من ستين عاماً.. يباهي ويفتخر بأن شركته تمتلك الآن طائرتين تحلقان في الفضاء.. وتلك خطوة نحو مشروع عودة الروح للطائر الغريد الذي انكسر جناحه قبل سنوات وبات قعيداً.. وفشلت كل الإدارات المتعاقبة والوزراء المشرفون على النهوض بسودانير.. (أو سودان طير).. لكن تجربة الشابين النابهين الناجحين “سعد بابكر أحمد” الموظف السابق بعدد من شركات الطريق ورفيق دربه وزميل كفاحه “قسم عبد الله” في تأسيس شركة طيران بعرق الجبين وصدق التعامل مع الناس والتواضع والنحت على الصخر، هذان الشابان كانا موظفين في شركة (مارسلاند) للطيران مع صاحبها “الرشيد أورتشي”.. ولكنهما اختارا طريقهما في عالم الطيران وأسسا شركة (تاركو) التي تجوب الفضاء الداخلي والخارجي الآن، وتملك أسطولاً بلغ ثماني طائرات بوينج وأربع طائرات نقل.. واثنين مروحية.. وتحلق (تاركو) في مدن الفاشر.. نيالا.. الجنينة.. بورتسودان.. الأبيض.. كادقلي.. والدمازين وخارجياً جوبا وأنجمينا.. والقاهرة والكويت.. والرياض.. بينما لجأت (سودانير) بعمرها الطويل لشركة (تاركو) واستأجرت منها طائرة ووضعت عليها شعارها من أجل أن تبقى (سودانير) على قيد الحياة، هذه مقارنة فقط مع شركة لا تقف من ورائها دولة مثل الخطوط الجوية الاريترية التي أخذت الآن تستقطب المواطنين السودانيين وتنافس الخطوط المصرية على خط الخرطوم القاهرة.. وغداً تنهض خطوط جنوب السودان وتبقى (سودانير) بشعارها الجميل وتاريخها القديم مجرد ذكرى يجترها السودانيون في الأمسيات عن الماضي الذي ولى، ونغني مع “إسحق الحلنقي”
بنتأسف على الروح
من الأيام وتتحسر
شيل الدمعة لما تحن
لماضي الريدو تتذكر
أسفنا البينا ما طول
عمر رحلتنا كان أيام
وكل فرح قصاد بيتنا
رحل بي طيف من الأحلام
وكل (جمعة) والجميع بخير.