جعفر عباس

ثورات الربيع صناعة محلية

ما ان يتفجر حدث سياسي حتى تنبري له الحناجر والأقلام باللتّ والعجن، وإذا لم يكن هناك حدث جديد او مستجد، فهناك حائط فلسطين القصير الذي صار متكأ للبكاء، ولكن ثورات الربيع العربي وفرت للكتاب الصحفيين مادة تسمح لهم بالتنظير والتحليل وإصدار أحكام بعضها راشد وكثير منها فاسد.
وما من حديث عن الثورات العربية التي بدأت في عام 2011 يصيب رئتي بالانتفاخ بغاز ثاني أوكسيد الكربون مثل الزعم بأن هذه الثورات مؤامرة لتفكيك الدول العربية. يعني «اسم الله عليها»، كانت هذه الدول في عهود الطواغيت في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا، تعيش في استقرار ونعيم، وجاء الشيطان الأمريكي ووسوس في آذان المصريين: اذهبوا إلى ميدان التحرير ولا تهابوا الموت، وطالبوا برحيل حسني، ثم تكتك الأمريكان الأمور ليفوز الإخوان المسلمون، ثم أوعزوا للجيش بأن يطيح بالرئيس الإخواني محمد مرسي، ولم يكن ذلك كرها لـ«الإخوان» ولكن استكمالا لسيناريو الفوضى غير الخلاقة، المؤدي إلى منح السويس والإسكندرية وكفر البطيخ الحكم الذاتي.
ولا يقول إن الثورات العربية مخطط تآمري غربي إلا من يحتقر الشعوب التي قامت بها، ويعتبرها قطعان بهائم بلا إرادة، تساق بالتحكم عن بعد، وهكذا مات الآلاف في مصر وليبيا، وعشرات ومئات الآلاف في سوريا بإيعاز من واشنطن ودول الناتو، ومن يقول بذلك يعتقد أن حسني شرم الشيخ كان مغضوبا عليه من واشنطن وشركائها، مع أن الرجل كان شبشبا في قدمها، وقعيد ليبيا، مزمجر الجزافي، قضى سنوات حكمه الخمس الأخيرة، يلعق أحذية الجالسين في البيت الأبيض وبروكسل، وسلّمهم ملفات جرائمه بالكامل نظير نيل العفو وأعطاهم «فوق البيعة» كل مخزونه من المواد النووية والأسلحة الجرثومية، وكفّ عن «طزطزة» أمريكا نهائيا، بل دعا الليبيين إلى الحج إلى المسجد الأقصى بعد الحصول على «تأشيرات دخول» من إسرائيل.
ويعتقد تجار نظرية أن الثورات العربية مؤامرة إمبريالية أنهم على حق لأن تلك الثورات قادت حيثما حدثت إلى اضطرابات وحمامات دم، وكأنما حمامات الدم في حماة السورية وحلبجة العراقية ومعظم مدن ليبيا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أمور غير مريبة لأنها صناعة محلية، رغم أن التاريخ يقول إنه لا «ثورة» حقيقية بدون دماء تكنس دنس عقود طويلة، وكل ثورة كائن حي، تكون له لحظة ميلاد، ثم يمرّ بفترة تسنين يعاني فيها الحمّى والهذيان والإسهال، ويحتاج إلى المصل الصحيح كي لا يكون عرضة لشلل الأطفال والسعال، ثم تأتي مرحلة بها بعض الطيش والنزق، ويعقبها التعقل والرشد. أعني أن الثورة تتألف من دورات طويلة حتى «تكتمل».
والثورات لم يصنعها فرد أو حزب في أي بلد عربي، بل صنعها نكرات يحسب معظمهم أن فيسبوك كتالوج لتجميل تقاطيع الوجه. ولا تعني الانتخابات أنه تم تكريس الديمقراطية بعد الإطاحة بالدكتاتوريات، ونحن نعرف أن النادي الأهلي القاهري أكثر شعبية وجماهيرية من الأحزاب المصرية مجتمعة، وأنه لو وقف نوري المالكي وكاظم الساهر على منصة واحدة لتساءلت الجماهير عن الذي يقف قرب كاظم، والتونسيون أعطوا ثقتهم لراشد الغنوشي، ولكنّ كثيرين ممن فعلوا ذلك انقلبوا عليه، فانحنى للعاصفة ليجنب بلاده التسونامي، والشاهد هو أن اكتساح شخص أو حزب ما في دول الثورات العربية الانتخابات لا يعني أنه رمز الثورة ومن سيحقق أهدافها، والغالبية ليست دائما على حق، وانظر كيف ضمن العبيط دونالد ترشيح الحزب الجمهوري الأمريكي له لانتخابات الرئاسة في نوفمبر المقبل.
ولخص أمر الانتخابات وكيف أن رأي الغالبية قد لا يكون صوابا أو ملزما لمن يخالفونها شاعرنا الكبير إيليا أبو ماضي في بيتين رائعين من الشعر: لما سألت عن الحقيقة قيل لي/ الحق ما اتفق السواد عليه/ فعجبت كيف ذبحت ثوري في الضحى/ والهند ساجدة هناك لديه.