جعفر عباس

اليتيم أولى من الجرسون


قلت مرارًا وسأظل أردد أنني شديد الإعجاب بأحد أغنى الأغنياء ألا وهو بيل غيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت للكمبيوتر، التي تخلى عن إدارتها تماما قبل نحو خمسة أعوام، وليس مرد إعجابي به أملي أن يتبناني، أو أن يوصي لي بواحد على التريليون من ثروته، بل لكونه ترك منصبه وصار خالي شغل ليتفرغ لدعم الأنشطة الخيرية الإنسانية، وقد تبرع حتى الآن بنحو 40 مليار من الدولارات للطفولة ومكافحة الأمراض والأمية. (أعلن غيتس صراحة أنه لن يترك لعياله الاثنين سوى 40 مليون دولار فقط!! من إجمالي ثروته التي تبلغ الآن 74 مليار دولار، ولو كنت ابنه لرفعت عليه دعوى بزعم أنه مختل عقليًا، وأنه يريد لي أن أعيش حياة الذل والفقر بـ20 مليون دولار فقط).
تذكرت كل ذلك بعد أن قرأت خبرا فحواه أن وزارة الشؤون الاجتماعية في بلد عربي غني تعد العدة لتنظيم مهرجان للفت الأنظار إلى معاناة الأيتام وحث الناس على رعايتهم، ولو كان فينا خير لما احتاجت الوزارة إلى بذل الجهد والوقت والمال لتنظيم المهرجان بفعاليات متنوعة! ولكننا على الرغم من كل جعجعتنا الفارغة نعتقد أن العمل الخيري فرض كفاية، إذا قام به بعضنا سقط عن الباقين، وأنه طالما أن هناك «حكومة» فإنّ عليها أن تتكفل باليتيم والسائل والمحروم.
ولأن في هذا تعميم ظالم لأنّ هناك من يسهمون في الأعمال الخيرية بانتظام وهناك من التزموا على مدى سنوات بكفالة أيتام وأرامل وتوفير رسوم الدراسة والعلاج لطلاب ومرضى فقراء، وبالمناسبة فقد لفت انتباهي وأنا المقيم في منطقة الخليج منذ عصر «الغوص وتجارة اللؤلؤ»، أن النساء الخليجيات أكثر ميلا إلى التبرع للأعمال الخيرية من رجال المنطقة، ولا يفعلن ذلك فقط استجابة لمناشدات تصدر عبر وسائل الإعلام بل بمبادرات فردية.
المعنيون بشؤون اليتامى لا يطلبون لهم سوى الحد الأدنى الذي يعصمهم من الزلل والانحراف، ولكن في هذه اللحظة فإنّ مئات الآلاف وربما الملايين منا لا شغل لهم سوى تدبير المال بالاقتراض والاختلاس والرهن وبيع كل ما هو ثمين؛ لقضاء بضعة أسابيع في بلاد يتاح فيها «البودي مساج» والعصائر الاسكتلندية، والفتيات اللواتي يضحكن على السياح بالحب الموسمي فيعصرن جيوبهم، ونعود في خاتمة المطاف ونحن نعاني من «اليتم» العاهر استعدادًا لجولة آسيوية أو أوروبية أخرى! ولا يلفت انتباهنا قط كيف أن الناس في أوروبا من كل الأعمار يقفون في الشوارع يناشدون المارة دعم صندوق السرطان، أو أيتام رواندا أو التماسيح الشاذة في البرازيل! يحدث هذا على الرغم من أن المواطن الأوربي العادي هناك يعرف أن حكومته غنية وقوية، ومع هذا فإنه يدرك أن عليه التزاما أخلاقيًا تجاه قضايا بعينها، لذا تجد المنظمات الأوروبية في الطليعة للتصدي للمجاعات والأوبئة، فنلطم نحن الخدود ونقيم سرادق العزاء لأنّ الصليبيين يدسون السم في الدسم.
ولو عامل كل واحد منا أيتام بلده كما يعامل جرسونات البلاد التي يهدر فيها ماء صلبه ووجهه، لما جنح حدث أو تشرد، أقول هذا وأنا أعرف مرارة اليتم، ليس لأنّ والدي رحل عن الدنيا وتركنا بلا عائل وليس لأنه رحل وأنا بعد طفل أو صبي (فقد مات رحمه الله بعد تخرجي في الجامعة وترك لنا أكثر مما يقيم الأود وأنا والحمد لله أنتمي إلى شعب مازال يعرف معنى التراحم والتكافل)، ولكنني رأيت من حولي نماذج مبكية لكيف أن فقدان الأب الراعي المحب الناصح والرادع والزاجر يترك في النفس خواء يصعب ملؤه.
أبي رحمه الله كان يملك ما لا تملكه هارفارد أو أوكسفورد: الحب بلا منة أو حدود أو انتظار جزاء أو شكور، وبرحيله فقدت بوصلتي إلى أن أصبحت أبًا ومطالبًا بالاقتداء به!