جعفر عباس

بلا حرية صحافة بلا بطيخ


في الثالث من مايو الجاري، أقام الصحفيون في مختلف أركان الدنيا سرادقات العزاء على روح حرية الصحافة، وأرواح الصحفيين الذين يروحون كل عام ضحية العنف الأهوج هنا وهناك، وكان الصحفيون العرب طرشان تلك الزفة، فقد سوّدوا الصفحات عن أهمية الحرية الإعلامية، وقرأت ما كتبه بعضهم و«قرفت».
منتهى الصفاقة أن يؤَمِّن على ضرورة توفير الحريات الصحفية، من يطبلون ويزمرون بحمد من ينتهكون كافة أشكال الحريات، طالما هم ينعمون بالحصانة من الملاحقة والمساءلة، عندما ينثرون بذاءاتهم في كل الاتجاهات، فليس من حق من جعل الصحافة مهنة مكاسب أن يتحدث عن أن الحرية ضرورية لصحافة يفترض أنها السلطة الرابعة، وليس من حق أراجوز مهرج يلتقط مفرداته وبلاغياته من البواليع ومقالب القمامة أن يزعم أنه يدافع عن أي شكل من أشكال الحرية.
في ظل الأنظمة القمعية التي تسيطر على مقاليد الأمور في معظم الدول العربية، تصبح حرية الصحافة أقل الحريات شأنا، فهي ليست أهم من حرية الفكر والمعتقد والرأي، والحرية في نيل ما يليق بالإنسان من تعليم وصحة ومسكن ومأكل ومشرب، وبكفالة هذه الحريات تصبح حرية الصحافة ممكنة ومجدية، وبغيابها تصبح حرية الإعلام صنو حرية التضليل والتجهيل، وبالتالي مكفولة فقط لمن يبيعون «أعمدتهم» مفروشة بالكلام المطرز على مقاس من يدفع ويكافئ.
كان مقالي ليوم أمس عن تقرير منظمة الشفافية العالمية والذي أفاد بأن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أكبر منتج ومصدر ومستورد للفساد في العالم، وبعد قراءة التقرير قرأت نحو 20 صحيفة عربية، ولم يتعرض معظمها للتقرير من قريب أو بعيد، والبقية التي تناولته أوردت فحواه مبتورا، و«يكاد المريب يقول خذوني».
وكان بإمكان كل صحيفة عربية أن تدرأ عن نفسها شبهة الطعن في ذمة حكومة البلد الذي تصدر فيه، بأن تورد موجزا لما جاء في التقرير عن منشأ ومصدر العطن والعفن الذي فاحت رائحته من ثناياه، مستعصمة بمقولة «ناقل الكفر ليس بكافر»، ولكنها اختارت الاستعصام بـ«ابعد عن الشر وغني له»، ولا أفهم لماذا «يغني» شخص عاقل وراشد للشر ما لم يكن هو شريرا أو محبا للشرور طالما تقع على آخرين؟
نقول في السودان «اللي ماسك القلم ما يكتب نفسه شقي»، والقلم هنا يرمز لمن بيده سلطة إصدار القرارات، وبالتالي فهو لا يصدر قرارا يتسبب في شقائه وتعاسته، والصحفيون العرب يمسكون بالأقلام، ويستخدمونها لإضفاء «قدسية» على «رسالتهم»، ومن ثم كان الضجيج حول حرية الصحافة خلال الأسبوع الأول من شهر الناس هذا، من دون التطرق على مدى العام كله الى حرمان الناس كافة من أبسط حقوق المواطنة.
لماذا لا يتحدث الصحفيون عن ضرورة منح المدرس حق المشاركة في المناهج المدرسية وإبداء الرأي حولها؟ لماذا لا تكون للصيدلي في بلداننا حرية رفض تسويق وصرف دواء مشكوك في صلاحيته تستورده جهة «مسنودة»؟ لماذا لا يكون من حق المحاسب أو مراجع الحسابات أن يقول «هنا اختلاس وسوء استخدام للمال العام»، من دون أن يتعرض للطرد من الخدمة وربما السجن؟ ومن يكفل سلامة طبيب يرفض أن يترك طوابير المرضى في العيادة لإجراء الكشف الطبي على صاحب هيلمان وطيلسان يعاني من إسهال طارئ؟
قضيت في الصحافة المكتوبة والمرئية أكثر من نصف سنوات عمري، وأتقنت لغة الحصافة عوضا عن لغة الصحافة، طلبا للسلامة أحيانا، وخضوعا لـ«السياسة التحريرية» في أحيان أكثر، وأتمنى لنفسي ولغيري من أبناء وبنات المهنة مناخ عمل ليس فيه خوف أو توجس، طالما نحن في خدمة الحقيقة والحق العام، ولكن تلك السنوات الطوال في هذا المجال، جعلتني أستسخف التباكي على حرية الصحافة من نفر ذوي ألسنة شديدة الخشونة بسبب الإفراط في لعق أحذية العسكر ونعال من تسلح بالخنجر.