نعم أجنبي الهوى في مجال التعليم
أيام قليلة وتبدأ معركة امتحانات الشهادة الثانوية العامة، وكعادتي في مثل هذا الوقت من كل عام سأتحدث عن أمور تتعلق بمصير شبابنا المتطلع الى التعليم العالي، لأنني أعتقد أن أهم قرار في مسيرة أي إنسان ما زال يتلقى العلم هو: ماذا أدرس في المرحلة الجامعية؟ ولماذا؟ وهل أنا قادر على دراسة مادة ما، وراغب في دراستها؟ وأين؟ وما الفرص التي ستفتحها لي دراسة تلك المادة؟ ولهذا فإنني أرى أنه من واجب أولياء الأمور أن يجلسوا مع عيالهم قبل أن يكملوا المرحلة الثانوية ببضعة أشهر، للتحاور طويلا، واستعراض الخريطة الأكاديمية، وقدرات وميول الولد أو البنت، وحصر مجالات التخصص المرغوب فيها، بحيث تكون هناك نحو ثلاثة خيارات ومسارات، ثم إحصاء تكاليفها المالية، ثم إجراء عمليات بحث وتقص مكثفة لكل جوانب المسألة، وشخصيا فإن الجانب الوحيد الذي مارست فيه الديكتاتورية الأبوية، هو ضرورة أن يكون التعليم الجامعي في مؤسسة غير عربية.
بحمد الله لا أعاني من عقدة دونية تجاه كل ما هو أجنبي، بل إن احتكاكي بالأجانب، زادني اقتناعًا بأنني وغيري من الذين يعيشون في العالم العربي نتفوق عليهم في كثير من المجالات الفكرية والثقافية، ولكن في مجال التعليم «يفتح الله». فالتعليم في البلاد المتقدمة أساس التنمية البشرية ومن ثم الاجتماعية والاقتصادية، بينما هو في بلداننا «إبراء ذمة»، ولهذا فقوامه المعلبات ذات الصلاحية المنتهية، فلماذا تريد لعيالك أو لغيرهم أن يحرزوا تقدير «ممتاز» في الأدب العربي، لأنهم يحفظون معلقة لبيد أو زهير أو طرفة من دون أن يفهموا واحدا على عشرة من معانيها كما حدث لي؟
أنا نتاج جامعة عربية، ولهذا فإنني أعتبر نفسي عصاميًّا، بمعنى أن معظم حصيلتي المعرفية أتت بجهد ذاتي، بعد مغادرة كرسي الدراسة، فقد تخرجت في الجامعة مسلحًا ببكالوريوس في اللغة الإنجليزية بمرتبة الشرف، وعندما دخلت الحياة العملية اكتشفت أن إنجليزيتي بمرتبة «القرف»، وطفقت أتعلم تلك اللغة بالإكثار من الاطلاع على نتاجها من أدب وفكر، واكتشفت بعد الإبحار في دنيا الكتب عموما، أنني أحمل بكالوريوس في الأمية المعرفية، علما بأن الجامعة التي درست فيها، كانت على أيامنا صنو جامعة كامبريدج البريطانية، ومع هذا فقد كان التلقين و«الحفظ» سبيلي وسبيل غيري للنجاح فيها.
التعليم الجامعي أهم محطة في مسيرة الإنسان الأكاديمية، ولهذا فإنني أنصح كل من يستشيرني في أمر إلحاق عياله بالجامعات، أن يبتعد بهم عن العالم العربي، إذا كان يملك الإمكانات المادية، بل أن يخطط كل إنسان منذ اللحظة التي يرزق فيها بمولود لـ«ميزانية» دراسته الجامعية في «الخارج»، وليس مرد ذلك سوء الظن بالأستاذ الجامعي العربي، بل بالنظام التعليمي العربي الذي يجرد الأستاذ من المبادرة والتجديد والخروج عن القوالب الجامدة، فالجامعات تدار بنفس الطريقة التي تدار بها إدارات المجاري أو الأراضي: هرم إداري هرِم (بكسر الراء) وأخطبوطي كل همه تقصي الالتزام باللائحة، واللوائح كما نعلم درع العاجز ذي الفهم المحدود والقاصر، ولا يعجبهم في اللوائح إلا «لفت النظر» و«الاستيضاح» و«مجالس التأديب»، وهكذا يستطيع موظف ساقط في الشهادة الثانوية، ويعمل في إدارة أي جامعة أن ينشف ريق البروفيسورات، الذين سرعان ما يتعلمون أساليب المشي على العجين، لضمان وصول الراتب سالما إلى الجيوب.
وكما أنني لا أرى بأسا في تلقي التعليم الجامعي في الدول الأجنبية، فإنني لا أرى بأسًا فيما يسمى هجرة العقول، من دول يتحكم فيها عجول، فـ«العقل» بحاجة إلى الرعاية والتقدير والأوكسجين وتخصيص الموارد كي يقوم بواجبه، وما لم يتوافر ذلك فإن العقل يبحث عن البيئة والمناخ الملائمين، ودول الغرب على نحو خاص تحتضن العقول والمواهب. هل كان من الوارد أن يصبح مجدي يعقوب وزويل وأسامة الباز والطيب صالح ملء السمع والبصر لو اكتفوا بما تلقوه في الجامعات العربية؟ «كلك نظر»!