عندما تزيف التقارير الواقع
– 1 –
من الروايات المشهورة عن اغتيال الرئيس الأميركي جون كنيدي أن الرجل كان حريصا على تلقي المعلومات من مصادر متعددة فهو لم يكن يستسلم للتقارير المكتبية التي تأتي إليه خاصة من الجهات الأمنية وكانت الصحف الأميركية أهم تلك المصادر. الرواية تقول إن خروج جون كنيدي خارج الصندوق الرسمي وتلقي المعلومات من الجهات غير الأمنية جعلته هدف مؤامرات الظلام.
القاعدة من يعطك المعلومة يستطع أن يسيطر على قراراتك ويحدد مواقفك ويختصر خياراتك.
الاعتماد فقط على التقارير الرسمية في اتخاذ القرارات وتشكيل المواقف ربما يفضي لكثير من الكوارث. تقارير الـ سي آي إيه والتي حوت كثيرا من المعلومات غير الصحيحة عن أسلحة الدمار الشامل هي التي تسببت في شن الحرب على العراق وتدمير دولته ومجتمعه ونهب ثرواته.
– 2 –
يُشاع على نطاق واسع، أن بعض المؤتمرات في السودان تكتب توصياتها، وتُحدِّد مُخرجاتها قبل الانعقاد. ويقوم بمثل هذه العمليات الفنية (ترزية) متخصصون في خياطة التقارير، يُعرفون بأسمائهم وسيماهم، منذ عهود سودانية قديمة!
لو تمت مراجعات ميدانية وعينية، لكثير من التوصيات التي ظلت تقدم في المؤتمرات بالسودان، لن نجد في واقع التنفيذ سوى القليل.
حتى هذا القليل عندما تنظر إليه في التقارير بعد حين، تجده أكبر وأكثر، بما لا يُقارن بما هو مُتحقِّق في واقع التنفيذ.
– 3 –
في اجتماع مجلس الوزراء الأخير في الخرطوم ودُعينا له كرؤساء تحرير، وقُدِّمَتْ فيه عدد من التقارير الوزارية، نبَّه النائب الأول للرئيس البشير الفريق ركن بكري حسن صالح- بطريقته الساخرة- للمفارقات التي تحدث بين ما يُكتب في الورق، وما هو منجزٌ في الواقع الفعلي. وأشار النائب الأول بطرفٍ خفيٍّ لـ «ترزية التقارير».
– 4 –
قبل سنوات أَسَرَّ لي صديقٌ وزميلٌ في الحقل الصحفي، عُرِفَ عنه التميز في الصياغة، والبراعة في العرض والتحرير، وانتقل للعمل في إحدى الوزارات، وقال لي: «بعد عشر سنوات من العمل في الوزارة، أصبحت لي خبرة وتجربة ثرَّة في تدبيج التقارير، التي يُسَرُّ لها المسؤولون»!
تقارير تُجمِّلُ الواقع، وتستر العورات وأوجه القصور، وتُشعِرُ المسؤول أن في عهده تحقق كثيرٌ من الإنجازات، التي من حقه التباهي بها في الاجتماعات الرسمية، وفي أجهزة الإعلام، وما لم يتحقق فهو قيد التنفيذ!
سألت زميلي عن أهم القواعد التي يتَّبعونها كي تخرج التقارير بصورة مقُنعة ومُرْضِية؟!
من الواضح أن سؤالي وقع لديه في موضع سرور وفخر، فشرع يشرح لي بحماس أساليبهم وفنيَّاتهم في ذلك.
قال إن أهم قاعدة تُحدِّد نجاح المُهمَّة أو فشلها، مدى معرفة كاتب التقرير بنفسية المسؤول.
ما يُحب ويكره، المخاوف والمصالح، إذا كان مولعاً بالمعلومات تُكثر له منها، وإذا كان يطمئن للأرقام، فكل معلومة تُلحق برقم أو نسبة.
أغلب المسؤولين لهم من المشاغل والمهام العملية والاجتماعية ما يجعلهم يكتفون بمتابعة التقارير، التي تُوجز ولا تُسهب.
أكثر ما أدهشني في إفادة الزميل السابق، أن بعض المسؤولين يُحبُّون الموظفين البارعين في خداعهم، ولكن بذكاء وبصورة لا تمس كبرياءهم الوظيفي!
-أخيراً-
أسوأ المسؤولين في نظري، قليلو التجربة والمعرفة، محدودو القدرات الذين يسهل خداعهم والتلاعب بعقولهم، وتشكيل تصوراتهم تجاه المواقف والأشخاص بالتقارير المُزيَّفة!