يوسف عبد المنان

هل الأزمة اقتصادية؟


تتعالى الأصوات داخل الحزب الحاكم وفي الأجهزة التشريعية مطالبة بإصلاحات اقتصادية للواقع الذي تعيشه البلاد الآن من تدن لسعر الصرف.. وتوقف صادرات البلاد من المنتجات الزراعية وتدهور القطاع الصناعي.. وضعف الإنتاج من البترول وفشل السياسات في جذب مستثمرين عرب وأجانب وفتح أسواق للصادر وتعظيم عائدات الذهب.. كل تلك الأسباب يعتبرها البعض أسباباً ترقى لإقالة جميع وزراء القطاع الاقتصادي في البلاد واستبدالهم بوزراء آخرين على أمل وعشم ورجاء في تغيير الواقع الراهن.. ولكن هل المشكلة التي تأخذ بعنق البلاد وتفرض واقع الضيق المعيشي الراهن والشظف الذي يواجهه المواطنون يعود في الأساس لفشل السياسات الاقتصادية؟ وما يفعل وزير المالية إزاء حصار اقتصادي معلن ومقاطعة عالمية جعلت من تحويل مليون دولار للسودان في غاية الصعوبة أو الاستحالة.. وفر المستثمرون حتى السودانيين من بلادهم إلى الجارة أثيوبيا.. وقد حدثني الصديق “بخاري باسبار” وهو مستثمر من أبناء النهود.. عن نقل كل نشاطه إلى دولة تشاد بعد أن استحال عليه البقاء في وطنه بسبب الحصار الأمريكي وسوء المناخ الداخلي واضطراب السياسات.. ويقدر خبراء اقتصاديون رأس المال السوداني في أثيوبيا بنحو (40) مليار دولار أمريكي.. ورغم الانفتاح سياسياً على بلدان مجلس التعاون الخليجي والمملكة العربية السعودية والوعود التي حصلت عليها بلادنا بدخول رأسمال سعودي وإماراتي للاستثمار في الزراعة.. إلا أن المقاطعة المصرفية وصعوبة تحويل الأموال من وإلى السودان.. تجعل الوعود العربية مجرد أمانٍ ونوايا حسنة.
تستطيع القيادة السياسية والتنفيذية إعفاء “بدر الدين محمود” من منصبه اليوم وتتبعه بقرارات تعزل محافظ بنك السودان “عبد الرحمن حسن” وتعفي حتى أميز وكيل للمالية “عبد الله إبراهيم” والوكيل الأول “حولي”.. وتستطيع تمديد الإعفاءات لتشمل وزير التجارة والصناعة والبترول.. ولكن هل المشكلة في الأشخاص؟ .. أم في السياسات؟ .. وهل القضية في السياسات الاقتصادية؟؟.. أم في الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد؟
أي معالجة جذرية للأوضاع تتطلب أولاً الاعتراف بأن الأزمة في حقيقتها سياسية وأي معالجة لا تأخذ بأسباب وقف الحرب الدائرة الآن وهي تمتص كل قدرات البلاد وتجعل كل العائدات من العملات الصعبة تذهب للوفاء بالاحتياجات الدفاعية والأمنية حتى لا تسقط الحكومة المركزية .. هي هروب من الواقع.. وتشخيص خاطئ جداً للأزمة التي تعيشها البلاد.. وإيقاف الحرب قرار سياسي صعب.. يتطلب استعداداً ذهنياً ونفسياً لتقديم تنازلات حقيقية.. والقبول بشراكة مع القوى التي تحمل السلاح ولكن في ظل المطروح الآن من سقوفات متدنية جداً من العروض، لا يتوقع أن تقبل تلك الحركات بأن تضع سلاحها الذي بيدها مقابل حصولها على عفو عن الجرائم التي اقترفتها في حق المواطنين.. وإيقاف الحرب من شأنه فتح نافذة لحوار سوداني أوروبي وسوداني أمريكي ينهي حالة القطيعة ويرفع العقوبات المفروضة على البلاد.. قد يذهب البعض إلى أن السودان لا حاجة له بعلاقات مع الولايات المتحدة.. ولكنه في حاجة لتجنب شرور الولايات المتحدة وبطشها وقدرتها على الإيذاء والضرر.. والدول الخليجية التي كنا نعلق الآمال عليها بأن تفتح ثغرة في الجدار المسدود بيننا والولايات المتحدة.. لم تفعل أكثر من تقديم مسكنات مؤقتة للجراح النازفة.
الشيء الآخر أن الاستثمارات في مناطق البترول وزيادة الإنتاج لن يتحقق إلا باستتباب الأمن في تلك المناطق.. واستتباب الأمن رهين بالسلام عبر التفاوض وليس فقط كسر شوكة التمرد وهزيمته.. وإيقاف الحرب ومكاسبها ليست اقتصادية فحسب.. بل إنسانية وسياسية.. لأن الحرب تمزق كيان الأمة وتورث المحن والضغائن وأي تنازلات تقدمها الدولة لمواطنيها في سبيل السلام هي تنازلات مطلوبة ولا تنتقص من قدر الدولة وهيبتها.. لذلك المراجعات الحقيقية للأداء الاقتصادي في الدولة تبدأ أولاً بمراجعة الوضع السياسي أولاً وحل أزمات الداخل قبل التفكير في الخارج.. وبلد تتوشح بالسلاح وتنزف دموعها دماً لا يرتجى إصلاح اقتصادها ولا رفاهية شعبها ولا طعم لكرسي الحكم فيها.