جعفر عباس

رجب وطهارة اليد والقلب


قرأت حكاية الكرواتي الحاج ريجو (رجب)، وشعرت بمزيج من الفخر والفرح: هو شخص مارس الفلاحة منذ بلغ الخامسة عشرة، وظل قانعا بما تدره عليه أرض أجداده، ولكنه -مثل مئات الآلاف من المسلمين في منطقة البلقان- شهد الأهوال عندما بدأ الصرب ينكلون بهم في مطلع تسعينيات القرن الماضي في عمليات إبادة جماعية، وفقد رجب خلالها زوجته وشقيقه، وخسر الجرارات والمركبات التي كان يستخدمها في الزارعة.
ذات يوم وجد الحاج رجب لفافة بلاستيكية، وفضها ليجد بداخلها مليوني يورو، أي نحو مليونين وثلاثمائة ألف دولار أمريكي، ولم يجد في اللفافة ما يشير إلى اسم أو عنوان صاحبها، فما كان منه إلا أن توجه إلى محطة التلفزيون المحلية ليعلن من خلالها عثوره على تلك الثروة النقدية، واتضح أنها تخص شخصا باع أرضه وبيته ومحلات تجارية كان يملكها لتوفير المال لعلاج ابنه المصاب بسرطان الدم، ولم تكن تلك أول مرة يعثر فيها رجب على مال ملقى في قارعة الطريق، فقد سبق له أن وجد خلال الفترة المضطربة من تاريخ كرواتيا، نحو ستين ألف دولار كان شخص ما قد سحبها من البنك لشراء بيت وسقطت منه، ففوض أمره إلى الله، فأكرمه الله بأن جعل شخصا أمينا شريفا مثل رجب يعثر عليها ويعيدها إليه، وفي كلتا الحالتين رفض رجب الحصول على نسبة 10% من المبلغ التي يسمح القانون لمن عثر عليه بالحصول عليها، ولكن الرئيس الكرواتي ومؤسسة «أدرا» الخيرية قاما بتكريمه بمنحه فيلا صغيرة وجميلة.
طبعا لم يسلم حاج رجب من ألسنة الناس فقد وصفه كثيرون بأنه عبيط وأبله ومغفل وساذج «خلي أمانتك تنفعك». هؤلاء لا يعرفون متعة الإحساس براحة البال والضمير. هناك من لو رأى -مثلا- ألف دولار تسقط من شخص يسير أمامه، داس عليها برجله ولا يلتقطها إلا بعد أن يطمئن إلى أن صاحب المال لم يحس بفقدانه وواصل سيره، وقد لا يفكر قط في أن ذلك المبلغ يمثل أجرة كذا شهر للمنزل الذي يستأجره صاحب المال الأصلي، وتمكن من الحصول عليه بالاقتراض لتفادي حكم بطرده وعائلته من المنزل، فهناك أناس أعطوا ضمائرهم إجازات مفتوحة، ولا يهمهم مصدر المال: خزانة الحكومة أو مال يتيم أو مال تم جمعه بـ «ذريعة» مشروع خيري.
في مناسبة اجتماعية تخص عائلتي في صالة عامة، دعوت إليها نفرا ليس قليلا من الناس، توقفت عند طاولة ضمت عددا منهم لتحيتهم بالسؤال عن حال العيال والماعز والضأن والجيران، وبعد دقائق افتقدت هاتفي الجوال، وكنت متأكّدا من أنني وضعته على تلك الطاولة كي أمارس التحية باليدين. واستخدمت هاتف صديق وأدرت الرقم الخاص بي، ولكن الهاتف كان مغلقا، فكرت لبرهة قصيرة في أن أعود إلى الجالسين على الطاولة وأقول لهم: أحدكم سرق هاتفي وأرجو ان يعيده بالتي هي أحسن وإلا فالشرطة بيننا!! ولكنني قررت أن ذلك «عيب». عيب لأنه ليس منطقيا أن يكون جميع الجالسين على الطاولة قد تواطؤوا لسرقة الجوال، وبالتالي فليس من حسن الخلق وآداب الضيافة إلقاء الاتهام بالجملة وأخذ البريء بجريرة المذنب الذي كان واحدا فقط منهم.
حتى في المكاتب صار الواحد منا يحمل هاتفه الجوال إلى دورة المياه، فالأمانة صارت عملة نادرة، وأسوأ ما ترتب على ذلك أننا صرنا نسيء الظن بالآخرين، وهذا يؤدي إلى الانغلاق والجفاء، ولكنني على ثقة بأن الأخيار أكثر عددا من الأشرار، وكل ما هناك هو أن الناس تتداول الأخبار والأقوال «السيئة»، في حين تبقى الفعال الحسنة قليلة التداول، ومن ثم لم نسمع بالحاج رجب إلا اليوم رغم أن حكاية المليوني يورو تعود إلى عام 2011.