أبعد ما نكون ..؟!
«بحسن التقدير نجعل الآخرين من ممتلكاتنا الخاصة».. شيشرون ..!
مقطع يوتيوب قصير لشاعر إماراتي – من عامة الشعب – يسهب في مدح الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم – حاكم إمارة دبي – تعثرتُ به في أثناء بحثي عن شيء آخر .. استوقفني كثيراً .. ثم أغراني بممارسة الإسقاط .. إسقاط صورة المادح والممدوح .. وفكرة (الفن مقابل العطاء) على واقعنا الشعري والغنائي وثقافتنا المحلية ..!
ذلك الشاعر لم يفعل شيئاً سوى أن عدد منجزات حاكم دبي في تطوير إمارته .. وأسهب في توصيف مساعيه الحثيثة لتدليل شعبه .. وهو ما درج عليه الشعراء العرب منذ أقدم العصور .. في العصر العباسي كان الشاعر يقف بين يدي الخليفة .. ويكيل له من صنوف المدح والثناء ما يُسرُّ قلبُه .. فتنتفخ أوداجه ويلتفت إلى بعض حاشيته قائلاً في طرب .. أمرنا له بألف ألف درهم ..!
بعض البلاد العربية بقيت محافظة على هذا السيناريو التاريخي بمعزل عن عوامل التعرية الثقافية والفكرية والاجتماعية التي عَولمت سلوكيات وقناعات إنسان العصر الحديث .. فما يزال أمثال ذلك الشاعر – صاحب المقطع – يقفون بين يدي الأمير .. ويسهبون في وصف فضائله .. فيلتفت الأمير إلى بعض الحاشية بذات الطرب .. ويقول ذات القولة التاريخية، بلغة عصره ..! أما عندنا في السودان فينظر السواد الأعظم إلى من يمدح الحكام ويثني على منجزاتهم كمن ينظر إلى شخص باع نفسه ليشتري ثمناً قليلاً .. حتى أن السبب الرئيس في اندلاع قضية شريف نيجيريا التي كثُر الحديث حولها – والتي تدخَّل بعض المسؤولين لفضِّ اشتباك الرأي حولها بمنع سفر الفنانين والفنانات سدَّاً للذارئع – يكاد يكون – هو قبول الفنانين والفنانات لعطاء الشريف السخي والذي لا يتناسب وثقافتنا السائدة من مقاولة الفنان على أجر مادي معلوم .. قبل وقوفه بين يدي جمهور صاحب الدعوة ..!
حتى أن البروفيسور الأمين أبومنقة محمد – الذي عايش عادات وثقافة الشعب النيجيري، قد وجد نفسه – قبل فترة – مضطراً إلى كتابة مقال، أو مرافعة، متحدثاً عن ثقافة الغناء مقابل العطاء في نيجيريا.. مستشهداً في ذلك بتاريخ نظام الحكم الإسلامي في شمال نيجيريا، والذي نهض على فكرة نظام الحكم في العصر العباسي .. وكيف أنَّ هذه الثقافة تنطبق على علاقة حكامهم بطبقة أثريائهم من جهة .. وشعرائهم ومغنييهم من جهة أخرى .. ضارباً المثل بحكاية فنان نيجيري أنشد أغنية طلب فيها من أحد الأثرياء أن يشتري له بيتاً في أغلى مدن البلاد.. فلم يكن من ذلك الثري سوى أن اشترى له بيتاً فاخراً في أرقى أحياء تلك المدينة ..!
أما نحن فلا نفعل (وثقافة المدح مقابل النقطة عندنا محصورة فقط في قعدات الغنايات!) .. لذلك لا ولم ولن نفهم حكاية العطاء مقابل الغناء .. ذلك أنّ المبالغة في إغداق العطاء أمر كان ومايزال متربطاً في ثقافتنا المحلية بـمفهوم (البيع) ..أن تبيع شيئاً غالياً كالأخلاق أو ثميناً كالضمير لتشتري ثمناً بخساً كالثراء .. لكنَّ معظم العرب والأفارقة يفعلون .. ونحن من ذلك أبعد ما نكون ..!
حسناً! .. من حقنا أن نفاخر بأننا لا نشبه الآخرين .. لكن ذلك لا يعني – بالطبع – أننا أفضل الأولين وأحسن الآخرين ..!