جعفر عباس

لك يوم يا ظالم


تسنى لي خلال الأيام القليلة الماضية الاطلاع على عمل روائي ضخم محوره الكارثة التي حاقت بمدينة بومباي الإيطالية عندما ثار بركان فسيوفياس وأهلك الزرع والضرع في المدينة، فهلك مئات الآلاف من البشر في ثوان، وبالضرورة فإنّ الكاتب تناول عظمة الإمبراطورية الرومانية، والتطور الهائل الذي شهدته في ميادين الري والزراعة والعمران والصناعة، وكانت تلك الإمبراطورية تغطي كل ما يعرف بالعالم القديم ولم يصمد بلد أمام سطوة جيوشها وبسبب كل تلك الأبهة والسلطان والهيلمان، جاء جيل من الأباطرة ممتلئا غرورا وثقة بالنفس واستخفافا بالآخرين، وارتكب حماقات استراتيجية فكان أن عرف الجيش الروماني الهزائم وكان أن تمردت على سلطته بعض الأقاليم التي كانت تدين لروما بالولاء التام، وتفككت أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، ولعل من شاهدوا فيلم «ذا فول أوف ذا رومان أمباير» ويعني «سقوط الإمبراطورية الرومانية» الذي شارك فيه عمر الشريف تناولوا جرعة مكثفة من التاريخ تشرح كيف يمكن لبنيان ضخم أن يتهاوى كبيت الكرتون إذا أهمل بُناته ومهندسوه أمره، وحسبوا أنه «خالد» لكونه محكم البناء وبلا نظير. في مسرحية شكسبير أنتوني وكليوباترا، تقول كليوباترا لحبيبها الزعيم الروماني العسكري أنتوني إن عليه أن يعود إلى روما ليتولى شؤون الحكم بدلا من أن يظل «لازق فيها» فيرد عليها:
Let Rome in Tiber melt, and the wide arch of the Roman Empire fall. Here is my space
«خلي روما تغرق في نهر التيبر وأعمدة الإمبراطورية الرومانية تتفتت. مكاني هنا جنبك يا أحلى من العجرمية».
وأمريكا المعاصرة كما قال عديد من الكتاب السياسيين هي الإمبراطورية الرومانية المعاصرة: جيوشها في أركان الدنيا الأربعة تأمر وتنهى… تتحكم في سعر النحاس والقطن والجرجير… تنتج الصواريخ والفياغرا ومايكل جاكسون.. تحدد كيف يتم تدريس الجغرافيا والجمباز.. تعتبر الاستماع إلى هيفاء وهبي علامة تحضر ورقي، وفي علم الفيزياء فإنّ التمدد الشديد يكون على حساب تماسك الشيء ويؤدي إلى تراخيه ووهنه!! وأمريكا كما نقول في العامية السودانية «إنشَرَّت» أي تمددت وترهلت، وفي الوقت الحالي فإنّ أكثر من ثلثي القوات الأمريكية المقاتلة توجد خارج الأراضي الأمريكية، وهو خطأ استراتيجي نبه إليه قادة عسكريون متمرسون.
الأمريكان اليوم في اليابان وكوريا وهاييتي وليبيريا والعراق وأفغانستان وبنما وجرينيدا وأوروبا وسيراليون، ولو فتحت فريزر الثلاجة الآن لوجدت فيه جنديا أمريكيا مثلجا ينتظر الأوامر ليدخل المايكروويف للتسخين ثم الشروع في القتال… وصحارى أمريكا في نيفادا وأريزونا مستودعات ضخمة لقنابل نووية تكفي لتدمير الكرة الأرضية 14 مرة.. وهزة أرضية من النوع الذي قضى على بومباي الرومانية أو حماقة بسيطة من شخص معتوه قد تؤدي إلى فناء الولايات المتحدة كليا أو جزئيا، والانقطاع الفاجع للتيار الكهربائي والذي حدث في القلب الصناعي والتجاري لأمريكا مؤشر على أن القوة العسكرية لا تجدي في مواقف معينة.. ثم إن الضعيف لا يبقى ضعيفا إلى الأبد، والعكس صحيح، فقد كان للعرب يوما ما إمبراطورية تضاهي الدولة الرومانية، ثم صاروا يستجدون الطعام والأمان ممن أذاقوهم المر والهوان. والصين كانت إلى عهد قريب بحاجة إلى راع وكفيل، ثم تحولت إلى أكبر قوة صاعدة في العالم المعاصر: لديها موارد طبيعية.. وقوى بشرية منضبطة تأكل الزلط.. وتاريخ عريق لم تتبرأ منه.. ولديها الماء والأرض.. والتكنولوجيا والسلاح.. وبعد عقد أو اثنين ستنتقل الأمم المتحدة إلى شنغهاي أو هونغ كونغ وستهرع الوفود العربية إلى بكين لمناشدة الصين أن تضغط على إسرائيل لـ«تعترف» بالدول العربية!