“خطة طموحة.. كفاية علينا” يضع مسؤول القوة البشرية في البلاد بشرى الوظائف الجديدة في كنانة المنتظرين.. “زراعة أمل في أرض بور”
يتفرس عثمان الحسين الشاب الثلاثيني في كوب القهوة أمامه وهو يجالس عدداً من رفاقه عند ظل راكوبة في أحد الأسواق الشعبية بأم درمان. يضع كوب القهوة الثالث من الصباح ومن ثم يسأل عن صديقه الغائب عن الجلسة هذا الصباح.. يأتيه الرد سريعاً أحمد في (جمبة) جديدة. المصطلح بين القوسين هو أحد الاستخدامات الشعبية في توصيف أماكن تجمع ستات الشاي، والمقاهي الشعبية في الخرطوم؛ وهي ظاهرة تتمدد في المدينة التي تستضيف ما يزيد عن الثمانية ملايين شخص وفقاً لآخر إحصاءات حكومية. تمدد ظاهرة ست الشاي والمقاهي الشعبية ملمح من ملامح تمدد ظاهرة (العطالة). عثمان ورفيقه الذي اختار له مكاناً آخر يدخلون في زمرة (455) ألف من المتبطلين من خريجي مؤسسات التعليم العالي وهو رقم من ضمن مليوني عاطل كان قد أعلن عنهم وزير تنمية الموارد البشرية الصادق الهادي في البرلمان الأيام الماضية.
“خطة طموحة”
يقول التقرير المقدم لنواب البرلمان إن قوة العمل السودانية بالداخل تبلغ (11) مليوناً؛ تنقسم إلى فئتين.. المشتغلين حوالي (9) ملايين بنسبة (81%)، والمتبطلين حوالي مليونين، بنسبة (19%). نحو (455) ألف من المتبطلين من خريجي مؤسسات التعليم العالي بنسبة (23%) يعمل من الفئة الأولى المشتغلين حوالي (723) ألف بالخدمة المدنية القومية والولائية منهم نحو (236) ألف بالخدمة المدنية القومية ونحو (487) ألف بالولايات. لا ينسى مسؤول القوة البشرية في البلاد أن يضع بشراه في كنانة المنتظرين حين يعلن عن توفر وظائف في خطة العام الحالي دون أن تنسى أن تصفها بالخطة الطموحة.
“أمل في أرض بور”
بالنسبة لعثمان ومجموع العطالة الذين يبدو رقمهم أكبر مما أعلنته الوزارة، فإن الخطة لا تمثل عندهم شيئاً، ولا تعدو كونها زراعة لأمل في أرض بور. يضحك وهو يقول بأنه في عطالته قد زامن أكثر من أربعة وزراء تعاقبوا على المنصب واستمع إلى هذه البشريات التي لا تتجاوز كونها أدوات تخدير تصلح لمزيد من الانتظار الذي لم يعد يملك سواه. يستعيد مشاهد سابقة له مع آخرين حين حملوا لافتاتهم وتجمعوا أمام مكتب والي الخرطوم السابق عبد الرحمن الخضر طلباً لوظائف كان الرجل قد صرح قبلها في وسائل الإعلام منادياً على كل عاطل بأن يصل إليه في مكتبه. كل ما تحصلنا عليه ساعتها كان مياهاً باردة وإعادة تسجيل أسمائنا في قائمة المنتظرين لوظيفة في مؤسسات الدولة الرسمية باعتبارها حقاً وفقاً لأسس المواطنة.
ما يطلبه سوق العمل.. “خلاف الأمل”
لا تبدو الحكاية في أرقام من لا يجدون عملاً ويتم تصنيفهم باعتبارهم (عطالة) من فئة خريجي مؤسسات التعليم العالي، فكثير ما سادت عبارات من شاكلة أن سياسة التعليم العالي والتزيد في مؤسساته كانت سبباً رئيساً في ازدياد حجم العطالة في البلاد. يقول أنصار هذا الاتجاه أن السياسة لم تضع في بالها ما يطلبه سوق العمل رغم أن مؤسسات الحكومة الرسمية تقول بغير ذلك وهي تشير بسبابتها نحو سوق الخليج وهو يستوعب خريجي الجامعات السودانية في مختلف المجالات وهو ما يعني أن السياسة التعليمية ما تزال بخير.
“فئات متعددة”
حسناً ثمة من يقول بأن قوائم العطالة في البلاد لا تتوقف عند محطة خريجي الجامعات وحدهم وإنما تشمل فئات متعددة يشير هؤلاء بشكل مباشر إلى ما يسمونه سياسة الفصل بحجج الصالح العام، والتي انتجت عدداً كبيراً من فاقدي الوظائف تحت حجج عدم دعم النظام الحاكم وأنهم تحولوا إلى نشاط مقاوم تحت لافتة المفصولين إلى الصالح العام مما منح حراكهم طابعاً سياسياً بشكل كبير، يضاف لهؤلاء من فقدوا وظائفهم نتيجة لسياسات (الخصخصة) التي طالت الكثير من المؤسسات العامة عقب تبني سياسة السوق الحر.
“كيف يقضي العاطل سحابة يومه”
لكن السؤال الآخر؛ هو كيف يقضي هؤلاء سحابة يومهم في بلاد تتجاوز درجة حراراتها الـ45 درجة؟ يحكي أحدهم تفاصيل ما يحدث يومياً: استيقظ صباحاً في حال كانت هناك وظيفة معلناً عنها ويجب علي الذهاب اليها في حال لم يحدث ذلك فأن مواعيد الإستيقاظ تكون بعد العاشرة صباحاً، ومن ثم يبدأ البرنامج اليومي الذي لا يعدو سوى كونه جلوساً في محلات ست الشاي وتناول (القهوة) والشاي وقضاء ما تبقي من الوقت في جدل يتناول كل القضايا ولا يتوقف الا بانتهاء فترة الصباح، ومن ثم الدخول الي الظهيرة التي نكون عندها بين أحد الخيارين؛ إما العودة للمنزل وأخذ قيلولةظت أو الذهاب إلى قلب السوق العربي. يضيف محدثي ساخراً: “إنت قايل الزحمة دي سببها شنو غير العطالة؟”.. يمكن قضاء العصر دائماً في ممارسة لعب كرة القدم قبل أن تدخل الفترة المسائية. المدهش هو أن مساء العاطل يتشابه وصباحه؛ لا شيء يمكن فعله غير إعادة جلسة الصباح أمام ست شاي أخرى، يمكن أن يبعدك عنها وجود مباراة ساخنة في أحد الدوريات الأوروبية، أو ممارسة لعب الورق في أي نادٍ قبل العودة إلى المنزل في انتظار الصباح. “المحظوظ منا”، كما يقول محدثي، هو من يجد أثناء اليوم (عمولة) في أي عملية توفيق بين بائع ومشتري تصادف أن تقاطع وجودك بينهما بمحض الصدفة.. ويختم الشاب الذي يقول بأنه غير راضٍ عما يحدث في يومه إفادته بالتساؤل: “لماذا يحدث هذا؟”
“الدخول إلى السوق”
المفارقة أنه في ذات يوم إعلان المليوني عاطل سوداني، كان رقم آخر بذات القدر يشير إلى وجود مليوني مقيم غير شرعي في البلاد، وهو ما يفسر ظاهرة الضغط على الخدمات وشغل الوظائف كما تقول المؤسسات الرسمية وهي تحاول إيجاد مبررات لعجزها عن توفيرها للخدمات، لكن ذلك ليس السبب الوحيد في ازدياد حدة العطالة في البلاد، فأدوات هدم المشاريع المنتجة التي عملت في أوقات سابقة لعبت دوراً كبيراً في زيادة الظاهرة التي ستزداد مؤثراتها السلبية علي مجمل الحراك والاستقرار في البلاد.
بالنسبة لاحمد فإنه قد قرر الانتقال من حالة انتظاره لوظيفة لا تأتي والتحول إلى كائن منتج. أحمد خريج الزراعة أعجزته الحيلة في بلاد النيلين واستحال عليه الحصول علي عقد عمل في البلاد الصحراوية لا سبيل أمامه غير الدخول إلى السوق. الطريق إلى هناك مفروش بأحد طريقين؛ إما أن يتحول إلى بائع رصيد متجول أو يعود للزراعة من خلال ممارسته بيع البرتقال المستورد من مصر أو التفاح اللبناني فهو مواطن في دولة تصنف بأنها عاجزة عن أن تنتج..!!
اليوم التالي