تحقيقات وتقارير

نصرها الشباب وخذلتها الحكومة.. السينما السودانية.. راح زمــان كــــان ليك مكانه

وبرمبل لم يكن يملك سينما كما يعتقد، والذي حدث أن قديس عبد السيد تقدم في العام 1946م بطلب للمستر برمبل للتصديق له بفتح سينما وسط السوق، لكن برمبل اختار له الميدان الواقع شرق مبنى البوستة مكانا لها، وبعد أن نال قديس التصديق أراد أن يكافئ المفتش على صنيعه، فأطلق على السينما اسم برمبل.
وحسب مؤرخين، امتازت سينما برمبل بعرض الأفلام الأمريكية لجاري كوبر وآلان لادو وهمفري بوجرن وريتا هيبورن، وكانت تذكرة (اللوج) بعشرة قروش والدرجة الأولى بخمسة قروش والثانية بثلاثة قروش والدرجة الثالثة بقرشين فقط.
لم يكن قديس عبدالسيد يدري أن إطلاق اسم برمبل على منشأته الجديدة سيكون وبالاً عليه، فبعض تجار السوق اعتبروا التسمية استفزازاً لهم، فاتفقوا على تكوين الشركة الوطنية للسينما، فكانت سينما الوطنية بحري والخرطوم وأم درمان.
مفتش صاخب وسينما صامتة
كان لسينما برمبل، رغم بؤس المسمى دور بارز في دفع عجلة الحركة الثقافية للأمام، وبالتالي إشعال جذوة النضال ضد المستعمر، الذي هو برمبل نفسه، حيث شهدت العديد من الندوات والليالي الوطنية، وأشهرها ليلة إبداع فيها الراحل عثمان الشفيع، فألهب حماس الحضور الذين خرجوا من السينما في مظاهرة هادرة، جابت أم درمان، كما ذكرت الزميلة الصحفية أنعام عامر في كتابها المعنون (سوق أم درمان): قبل أن ينزل الشفيع من خشبة المسرح ختم حزمة أغنياته بـ (وطن الجدود) تلك الكلمات التي ألهبت جذوة الوطنية، واستطاعت أن تشعل حماس الجمهور الذي ظل يصفق ويردد مقاطع الأغنية خلف عثمان الشفيع، وفي لحظات ملأ الانفعال نفوس الحضور، وانهمرت دموع البعض كالسيل، وبعد انتهاء الفاصل الغنائي للشفيع اندفعت الجماهير تردد:
فليخرج الباغي الشقي
ويرفرف العلم الحبيب
وحدة أفلام السودان
دور رائد، لعبته دور السينما في السودان إبان الحركة الوطنية ضد المستعمر، وآخر سجلته السينما بكاميراتها وثقت فيه للحياة السودانية في فترة ما قبل وبعد الاستقلال، قبل أن تختفي من الساحة وتصبح نسياً منسياً.
في استوديو الأزهري بالإذاعة نظمت إدارة التدريب بالهيئة العامة للإذاعة القومية، قبل الدمج، ندوة عن دور وحدة أفلام السودان في تثقيف وترسيخ قيم الاستقلال والسلام والوحدة، كان ذلك في نهاية العام 2010م إبان احتفلالات البلاد بأعياد الاستقلال واحتفالات الإذاعة بعيدها السبعين، تحدث في هذه الندوة الأستاذ السينمائي صلاح عبد الرحيم عن تاريخ السينما في السودان ودورها في ترسيخ الوعي والتثقيف والتعليم والتوثيق لحقبة مهمة من تاريخ البلاد، خاصة وأن السينما في السودان بدأت في منتصف أربعينيات القرن العشرين. كما تحدث الأستاذ السينمائي عوض الضو عن مراحل تطور السينما في السودان منذ الإعلان عن أول وظيفة لكاتب سيناريو في صحف الأربعينيات، التي نالها الرائد السينمائي كمال محمد إبراهيم، ثم التحول من السينما الصامتة إلى السينما الناطقة، وابتعاث الرائدين كمال محمد إبراهيم وجاد الله جبارة للدراسة في قبرص ثم عادا وأنتجا أول أغنية مصورة في تاريخ السودان أغنية (الخرطوم) للفنان حسن عطية. وقال عوض الضو إن فترة الرئيس عبود شهدت إنتاج غزيز للأفلام السينمائية في السودان مهدت لمشاركة السودان في منافسات إقليمية ودولية حقق فيه مجموعة كبيرة من الجوائز حتى لقب بصائد الجوائز.
علمنا الأول
تم في تلك الندوة عرض فيلم باندوق وهو فيلم يوثق لأول مشاركة للسودان في موتمر دولي، وهو المؤتمر الذي شهد انطلاقة منظمة دول عدم الإنحياز، وباندوق كانت حينها عاصمة أندونيسيا. من الحقائق المهمة التي وثق لها هذا الفيلم أن أول علم للسودان رفع في محفل دولي كان أبيض اللون مكتوب فيه (soudan) الفيلم يبدو في حالة جيدة رغم تراكم السنين والغبار. وقد علق عليه الأستاذ أبو عاقلة يوسف، بصوته الفخيم. أجمع المتحدثون في الندوة عن الدور الكبير لوحدة أفلام السودان في التعريف والتبصير بالاستقلال والعمل على تعزيز الوحدة والسلام بين أهل السودان حقب من الزمان، داعين إلى ضرورة العناية والاهتمام بحفظ المخزون المعرفي الكبير من الأفلام السينمائية وأرشفتها إلكترونيا ونفخ الروح في جسد الإنتاج السينمائي لتعود للسينما سيرتها الأولى في التعليم والتثقيف والترفيه وتوثيق الحياة السودانية.
الإنتاج السينمائي
في العام 2012م ونحن نبحث عن شهادة ميلاد للتلفزيون السوداني، الذي كان وقتها يحبو نحو عامه الخمسين، لم نجد بداً من الصعود إلى أسفل، حيث الإنتاج السينمائي المقبور أسفل عمارة البث أو(البدروم) كما يسمونه أهل العمارة في حوش الإذاعة. في رفقة الخبير السينمائي بنجامين شكوان، بحثا عن فيلم سينمائي صامت يوثق صرخة ميلاد تلفزيون لم يسكت حتي يوم الناس هذا. نصب بنجامين ماكينة عتيقة من بقايا وحدة أفلام السودان وبدأ (يلعَب) في أشرطة تكورت في علب صدئة من صنع الألمان، بقدر اتساع سعادتنا بلقطة قصيرة يظهر فيها الزعيم إسماعيل الأزهري، وهو يضع حجر الأساس لاستديوهات التلفزيون في العام (1963م) كانت دهشتنا أكبر عندما أشار بنجامين لشاب يافع ظهر في إطار الصورة، وهو يقول بنشوة وافتخار (شفتوا الولد داك.. دا أنا)..
العهد الذهبي
يحكي بنجامين عن عهد السينما الذهبي ودورها الرائد في التثقيف والتعليم ومحاربة العادات الضارة في السودان، مؤكدا أن التلفزيون اعتمد في بثه الأول في العام 1962 على بث الصورة الملتقطة بشريط كاميرا السينما عبر جهاز (التلي سينما) بعد التحميض والمونتاج الذي كان يدوياً ومرهقاً، وذلك بقص ولزق الشريط مقاس (16-35) المستورد من بريطانيا وأمريكا في العلب التي تظهر في الصورة، وهي مقاس (400) قدم التي تلتقط مشهداً لعشر دقائق ومقاس (1200) قدم، ويتم المونتاج بقص لقطة بالقاطع ولزقها في لقطة أخرى باللصاق العادي حتى يكتمل المشهد. لم تعمر أجهزة (التلي سينما) كثيرا في التلفزيون حيث أدخل جهاز الـ(دي في سي)، وفي تلك الفترة ابتعث بنجامين إلى بيروت لدراسة أفلام كوداك (في ان اف) عاد منها ليفتتح وحدة خاصة للأفلام التلفزيونية حتى وصلت عربة البث الخارجي للبث المباشر من ألمانيا وظهر شريط (الفي تي ار)، وتحولت السينما لإنتاج الأفلام مثل تور الجر في العيادة وتاجوج وأطفال مشردة والشروق وغيرها.
تاريخ مقبور
حكايات كثيرة ومشاهد وأحداث خالدة داخل هذه العلب البائسة تنتظر من يحولها إلى أشرطة (الدي في كام) حتى يتسني مشاهدتها عبر التلفاز. هذه العلب يحفظ بنجامين محتوياتها على ظهر قلب بل عمل على تقسيم المكتبة إلى شرائط قبل الاستقلال وأيام الديمقراطية وحكومتي عبود ونميري، ويستمتع بنجامين بمشاهدة أشرطة نادرة تحتوي تفاصيل إعلان الاستقلال وقيام ثورة عبود وافتتاح التلفزيون القومي والمسرح واستاد الهلال والموردة والمريخ وافتتاح خزان سنار وسكر الجنيد وعسلاية وأفلام قديمة مثل (نساء في حياتي) و(رجل من القرن الأول) ويتحسر على تلف بعض الأفلام السينمائية بفعل الزمن منها فلم زيارة الرئيس اليوغسلافي برجنيف إلى السودان.
نصرة الشباب
لم تول وزارة الثقافة السينما السودانية اهتماماً، ففي عهد السمؤال قريش مالت الوزارة إلى أهل الغناء والموسيقي، وأضاعت كثيراً من الجهود في مهرجانات لا أثر لها الآن، وفي عهد الوزير الشاب الطيب حسن بدوي، انشغلت الوزارة كثيرا بالبحث عن الهوية السودانية ودعم الحوار المجتمعي، ولم نلحظ له جهد يصب في إعادة الروح للسينما السودانية. وحدهم الشباب وطلاب الجامعات المهتمين بالسينما نشطوا كثيرا خلال الأعوام الماضية في إنتاج سينما سودانية قدر استطاعتهم، ولكنهم نجحوا في جعل للسينما السودانية صوت وصورة.

 

 

اليوم التالي