يوميات رمضانية “1” نكد العاصمة.. تفاصيل الركض خلف لقمة العيش
الحكايات الواردة أدناه حصرية على العاصمة.. ولم لا تكون حصرية ما دامت الخرطوم نموذجاً مصغراً للسودان بلا منافس أو منازع، ولا يوجد من يحدق لها في الظلام ليردها عن غيها للصواب وجادته.. نعم لا أحد يستطيع التحديق في وجهها ومن يفعل عليه ارتداء (كركاسته) تحت بنطاله لأنه لا محالة مضروبا على قفاه قبل وجه.
والضرب على القفا كما هو معلوم يُوجه للصغار فقط ولهذا تمارسه الخرطوم ضد المُدن الأخرى لأنها دائماً تراها صغيرة وصغيرة جداً، ولذا تنال ضربتها على قفاها ولا تُلطم على وجوهها بتاتاً، وحتى اللطم على الوجوه تستكثره هذه المدينة الشمطاء على غيرها، لأنها تعتبره دالاً على الندية وهو كذلك! هذا حال المُدن التي تعتبر نفسها وصيفة للخرطوم أما القرى والفرقان، فلا مكان لذكرها بين دفتي كتاب هذه المدينة (الباتعة).. والحكايات التي يرد ذكرها هنا هي نتف من يوميات الناس في شهر رمضان نقصها من واقع حالهم بلا إضافة أو تعديل ونرسلها لسجل التاريخ الأمين، لتبقى هناك شاهداً في المستقبل على الجبروت الخرطومي.
تقليد بائس
قبل القبض بتلابيب حكايات الواقع اليومي للناس في شهر رمضان وركضهم المستمر خلف لقمة العيش، نود التدليل على سادية الخرطوم التي جعلنا منها نموذج لحكايات الناس وواقعهم في السودان.. فهذه المدينة التي توصف في السابق بأنها صنيعة استعمارية بناء وتخطيطا وإدارة، دأبت على غطرستها وساديتها من خلال تحكمها في مجريات الحياة العامة في السودان، تحكماً لم يكن كله شراً ولكن بعض جوانبه تخلو من العقلانية والقبول.. فحين نضرب مثلاً واحداً من أمثلة كثيرة نجد أن الخرطوم التي نشأ بها أكبر ناديين كرويين مطلع القرن الماضي هما الهلال والمريخ، ألهمت بكبريائها المدن الأخرى لتنشأ فُرق قروية بذات الأسمين، وبمطلع القرن الحالي لا تخلو مدينة من فريق كرة باسم المريخ أو الهلال، إذا لم يكن الأثنين معا وهذا موجود بكثرة بحسب (الطاهر أحمد) وهو من غمار الناس يعمل بدرداقة بسوق ليبيا ومتابعة جيد لأخبار الرياضة عامة وكرة القدم خصوصاً.. ويضيف (الطاهر أحمد) بعد إنشاء الفُرق في المُدن النائية بأسماء فُرق الخرطوم يأتي المعلقون والحكام والمراقبون من الخرطوم أيضا ليديروا مباريات تلك الفُرق في مدنها البعيدة، فتصير الحكاية كلها خرطومية اسماً وإدارة وتعليقاً.
حلم مغشوش
لا تتوقف سادية وسيادية الخرطوم على حدود كرة القدم كأشهر لعبة شعبية إنما تلعب على حبال كثيرة أخرى، ساعدها في ذلك ساسة وإداريون تعاقبوا على حكمها منذ الاستقلال، أكثرهم قدَّم من الريف أو من مدن بعيدة، ولكنهم بعد أن (تخرطموا) بالكامل أعلوا من شأنها وتجاهلوا منبتهم الأول، فصارت تبعا لذلك كما يؤكد (الزين عبيد) صاحب بقالة بأم بدة وقارئ مداوم على الصحف ومتابع دقيق لمجريات الأحداث، حلم بعيد المنال لسكان المدن يهدرون السنوات الطويلة في مُباصرة وعمل دؤوب من أجل الوصول إليها للسكن أو لإيجاد عمل فيها كخيار أخير، ولو وجد القادم من خارجها مسكناً ولو بالإيجار يتجاهل مكانه الذي جاء منه، فتضعف رابطته الأولى ويقوى عود الثانية، وحينها ينطلق الوافد الجديد المقيم في بيت الإيجار راكضا خلف الاندماج في مجتمع المدينة ببهرجته وسلوكه المختلف ورأس ماليته البالية.
مجد زائل
والسؤال الذي يجب الإجابة عليه، هل حافظة الخرطوم على مظهرها كمدينة عريقة أمام التغيرات التي طالتها بعد أن خرجت من بين يدي إدارة الاستعمارية وقوانينه؟ بالتأكيد لم يبق لها من مجدها القديم سوى نتف صغيرة من ذكرياتها في أضابير الأرشيف، وتحولت برمتها لصورة مشوهة تقف بين حدود المدينة المترامية والقرية الكبيرة كما تجسدها الصور والحكايات التي تأتي تباعاً في هذه المساحة لتعبر عن حقيقة الحياة اليومية بتفاصيلها الدقيقة في أعرق وأقدم العواصم الأفريقية.
الخرطوم – محمد عبدالباقي
صحيفة اليوم التالي