زمان الإذاعة “هنا أم درمان” من ربع ساعة إنجليزية إلى أربع وعشرين ساعة سودانية الهوى
كان نهار الخميس يتوشح (أقمصة) الحزن الإذاعي، فالحيشان تودع نجاة كبيدة، ولأن أزمنة الصوت الوطني مثل زمان الوطن تتراوح بين الأحزان والأفراح كان (شاويش) في المساء يهمهم بكلماته وينقرش على عوده ويدفع صوته أمامه وهو يغني على طريقته: (أنا ما جاييك شايال أفراح تملا الدنيا.. عطر الريحان شوق الحبان واجمل غنية.. جاييك فرحان الخطوة تسابق في الخطوة)..
* في يومها الثالث كانت خيمة الصحافيين ترفع قواعدها على (الرادي) تنادي على الإعلامي المعتق البروفيسور علي شمو وعلى عوض أحمدان وتسلم دفة الحوار للأستاذ نجيب نور الدين، وهي تفعل ما يفعله الباحثون عن المتعة، تستعيد فقط تاريخ الإذاعة السودانية ودورها الوطني على مر العصور.
واضحاً مثلما يخرج صوت المعلق الرشيد بدوي عبيد وهو يعلن عن (قوون) لفريق سوداني في مواجهة أفريقية، يثبت البروف علي شمو الارتباط بين الإذاعة والسلطة الحاكمة، ويقول إن الإذاعة جهاز حكومي يأتمر بما تقوله السلطة المسؤولة عن تسيير دولاب الدولة.. في بداية تكوينها ـ والحديث لشمو ـ لم تكن الإذاعة غير أداة لتمرير أجندة الحكومة الإنجليزية في البلاد، وما حدث مع الحكومة الإنجليزية تكرر مع الحكومات الوطنية في البلاد. لكن ـ بحسب شمو ـ فإن هناك أدواراً كبيرة لعبتها الإذاعة في تقريب الأواصر بين السودانيين، كما لعبت دورا كبيرا في حشد طاقات المجتمع لتحقيق التطلعات العامة.. يشير شمو هنا إلى ما أسماها (أموال الفداء) التي تم تجميعها لصالح الموظفين الإنجليز من أجل تسهيل مغادرتهم البلاد عقب الاتفاق على حق تقرير المصير.
الارتباط بين الإذاعة والسلطة الحاكمة لم يمنعها من القيام بدورها الاجتماعي أو دورها المرتبط بتحقيق وحدة الوجدان السوداني.
المؤكد أن وصول الإذاعة السودانية إلى واقعها الحالي كان عبر تطورات ومحطات كبيرة، فقد انطلقت الإذاعة من أحد المنازل المؤجرة في أم درمان وكانت تبث لمدة نصف ساعة يومياً وذلك عبر المايكرفون مباشرة قبل أن يدخل نظام التسجيل على الأسطوانات.. هنا لا ينسى شمو أن يحكي قصة تسجيلات كرومة مع الأوركسترا الحديثة وهي التسجيلات التي تم إتلافها عند انتقال الإذاعة إلى موقعها الحالي وتحولها لتبث طوال أربع وعشرين ساعة، وبموجات متعددة.
في خيمة الصحافيين وفي يوم الإذاعة، كان الحضور جالساً في حالة إنصات منقطع النظير، مثلما يفعل رجل في أقاصي الشمال يجالس مذياعه (المجلّد).. هناك يمنحون آذانهم لتتبع حكايات الإذاعة وتفاصيل هذا المخلوق المسمى في القواميس (الراديو)،
لم يكن للإذاعة دور في تحقيق الاستقلال، عكس الصحافة، فقد كانت تمنح صوتها للمستعمر وتغطية أنشطته.. يقول شمو ويمنح بعدها المايكرفون لشاويش على سبيل الفخر، إنه ابن الإذاعة.. وينعتها مدير إذاعة صوت الأمة عوض أحمدان بأنها ذاكرة مسموعة، فكل السودان يوجد داخل أرشيفها وهي المعبر الحقيقي عن (التنوع السوداني).
وقبل أن تختم الجلسة في الواحدة صباحاً ثمة صوت يعشعش في دواخل الجميع (كلنا أبناء الإذاعة) فهي التي شكلتنا ويحق لنا أن نقول عندها (كلنا أبناء هنا أم درمان).. تلك الحكاية التي بدأت (إنجليزية) في ربع ساعة وانتهت إلى سودانية طوال الأربع والعشرين ساعة.
الخرطوم ـ الزين عثمان
صحيفة اليوم التالي