ظاهرة تتزايد مع مرور الأيام الاحتيال.. عندما تموت الضمائر
شاب يتعرض لأطرف خدعة وسوري يدفع الثمن غالياً
بائع متجول يبيع (شوال خيش) لزبون بدلاً عن (بنطلون)
اختصاصية اجتماعية: جنوح بعض الأشخاص للاحيتال ناتج عن حالة مرضية
(إحذر من الاحتيال).. وصية يُهمس بها في أذن كل زائر إلى رحابة المدن المزدحمة، ويعبأ بها كل من يهم لمغادرة منطقته النائية المضمنة في تصنيف (الأقاليم). الغرض منها أن يأخذ الحيطة والحذر في تعامله مع قاطني المدن التي تعج بنسبة عالية من السكان.
الشاهد أن المعاملات في شتى مناحي الحياة اليومية، أضحت لا تخلو – إلا نادراً – من عمليات الاحتيال، وعلى رأسها معاملات السوق، كونه يُعرّض الإنسان لأن يقع ضحية في سعيه للكثير من احتياجاته التي يبتغيها، فبدلاً عن الأصل منها، يحمل النسخة التي تشمل كل تفاصيل الزيف في صورته الصريحة..
في هذا التحقيق نتطرق إلى الكثير من صور الاحتيال التي وقعت بالخرطوم.
كأنها الحقيقة
جميلة هي طرق البيع التي يتخذها الباعة المتجولون، وأخّاذة تُلفِتْ أعناق المارة فتجذبهم داعية لهم بالوقوف بعد أن قَنَعتْ آذانهم بالعبارات التي يرددونها, فهم بين بائع للملابس، وآخر محمّل بصنادق العطور, وآخر يعرض الهواتف النقّالة. وتتعدّد الصنوف التي يتجولون بها بائعين.. فهل ما يبيعونه فعلاً هو نفسه الذي يبدو لنا حقيقة؟
المحطة الوسطي بحري
حكى نور الدين أحمد لـ(الصيحة) أنه انتوى شراء (بنطلون) فتوجه إلى سوق بحري، تحديداً المحطة الوسطى بالقرب الكنيسة، فالمنطقة غنية بالباعة المتجولين، وأول من قابله وهو يبحث عن متجر مناسب ليشتري منه بائع متجول يحمل ملابس رجالية، فقصده واختار من بين البضاعة ما وافق احتياجه وقد شاركه التاجر (المتجول) في الاختيار للون وشكل (البنطلون) وأدخله له في (كيس) وهو ينظر إليه مراقباً بأمْ عينيه حتى سلّمه له, فأخذ نور الدين أحمد (الكيس) وذهب إلى بيته.. وفتح الكيس ليرتدي (البنطلون) (مجرباً) له وليتأكد من المقاس، ليُفاجأ بأن ما بداخل الكيس ليس إلا (شوال خيش) فدخل نور الدين في تساؤل وحيرة ألجمته ليعود مسرعاً إلى سوق بحري باحثاً عن البائع المتجول دون أن يجده حتى كتابة هذه السطور!
سمسار يهرب
وأحصت جولة قامت بها (الصيحة) في رقاع واسعة من أحياء الخرطوم المختلفة، العديد من القصص المحزنة والتي تعرض لها أفراد كان مبتغاهم إيجاد شقق سكنية، وقد اختلفت القصص، مع اختلاف التفاصيل رغم توحُّد الفكرة، وهي إيجار السكن، من بينها حكاية أبو عمر، وهو رب عائلة نزحت من الولاية الشرقية تحديداً من منطقة كسلا، بعد أن عرض منزله للبيع وأخذ كل المبلغ الذي دره عليه البيع ليقرر بعد ذلك المجئي إلى الخرطوم وفكرته أن يقيم عملاً تجارياً ريثما تنمو أمواله ويستطيع بعد ذلك شراء منزل له وأسرته، عقب وصوله بدأ البحث عن شقة، ولم يجد، حتى قابل سمساراً ، اصطحبه إلى شقة ادعى أن صاحبها أوكله بتأجيرها. يقول أبو عمر وهو يروي لنا قصته، أعطيته مبلغ الايجار لشهرين مقدماً، إضافة إلى بعض الفواتير التي يجب عليّ تسديدها ليتوفر في الشقة الماء والكهرباء والغاز، ودفعت مقابل ذلك كله (3000 ) جنيه.
شرك منصوب
مضى أبو عمر في قصته وهو يحكيها بألم بالغ: فبعد أسبوع تبين لي أن السمسار إحتال عليّ، وقام بإيجار شقة سكنها هو من قبلي، وبعد أن اختلف مع مالكها أمره الأخير بإخلائها خلال أسابيع، فأجرها لأبو عمر الذي اضطر للدفع مجدداً لمالك الشقة، وخسر كل ما دفعه سابقاً لـ(السمسار) الذي لم يشاهد له أثراً بعد ذلك.
عربي.. ضحية
في حي من أحياء الخرطوم البرجوزاية يعيش سامي كنان عمر، الذي هرب بعائلته بعد أن قصف جيش بشار مدينته السورية حلب، يروي سامي حكايته وملؤه الأسى: لقد كنت حذراً وأنا أهم بالتفتيش عن سكن للإيجار من عملية الاحتيال وأن يُنصب علي، حرصت عند تأجير الشقة، على تسجيل العقد، وإثبات صحته في الجهات المعنية قبل دفع المبلغ المتفق عليه في الإيجار. ولكن لم يمنعه حذره من التعرض للخداع، يقول سامي: طرق باب شقتنا رجل سوداني، أخبرني أنه من سكان العمارة التي نسكنها وكانت على هيئة مجمع كبير به عدد ضخم من الشقق السكنية، وأنه مكلف بجمع نقود الفواتير المتعلقة بالكهرباء والماء والغاز خاصة وأنها شقق مفروشة، وأعطاني وصلاً بقيمة 300 جنيه سوداني، وبعد أن انقطع التيار الكهربائي عنّا والمياه، اكتشفت أنه مزور، وأنني وقعت ضحية محتال.
نشاط استغلالي
نشاط (السماسرة) يمتد إلى استغلال حاجة الإخوة العرب في التقدم بطلب إيجار سكن، كما يروي الشاب الثلاثيني خالد وهو من بغداد، قائلاً: كنت أبحث عن شقة، فقابلت أحد الأشخاص وأخبرني أنه يعمل مرشداً سياحياً، بل سمّى له المكتب الذي يعمل في هذا المجال، واتفق معه على مبلغ 200جنيه مقابل اصطحابه للمقر، وبعد إكمال إجراءاته الأولية وفي طريق العودة فوجئ خالد بذات الشخص يتحدث لرجل يحمل نفس سحنة خالد العربية، عن إمكانية تقديم موعد مقابلة المسؤول عن المجمع السكني في المكتب بطريقة رسمية، مشيراً له بأن مقر المكتب في كذا وكذا.. أي أن خالد قد وقع في فخ مرتّب، يواصل خالد حديثه: فوراً باشرت (السمسار) بسؤال: ألكم مكتب غير الذي كنا به قبل قليل؟ قال له لا، أنا كنت أقصد لذاك الرجل مكتب آخر حسبما طلب هو من مواصفات سكنية يستطيع أن يوفّرها له ذلك المكتب، وأضاف خالد أن (السمسار) قال قوله هذا وهو يحاول طمأنتي أنني أحمل إيصالاً حقيقياً وبه ختم وتوقيع المدير القائم بأمر الإيجار للمجمع السكني والذي بموجبه يمكنني أن أسكن بالشقة وفق التأريخ الموضّح على الإيصال، وقد كان، جئنا أنا وأسرتي في الميعاد المحدد ونحن نحمل أمتعتنا المتبقية من ويلات العراق، ووقفنا أمام الشقة، ومعي المفتاح وحاولت فتح الباب، ففشلت ليتسع حجم المفاجأة بشكل غير متوقع حينما خرج إلى من داخل الشقة رجل ألقى علي السلام وملامحه كلها تساؤل، وباشرني بسؤال: مرحبا، من أنت؟ فشرحت له كل التفاصيل التي معي، لأتفاجأ أكثر بأنني وقعت ضحية لسمسار يحمل إيصالات وهمية، بعدها عدت أدراجي إلى المكتب الذي تبرأ من (السمسار)، وفتحت محضراً في مواجهة المكتب الذي أخذ مالي الذي دفعته كمقدم لشهرين وهو 4000 جنيه، لكن سرعان ما أقنعني القانون أن الشخص لم يتم العثور عليه، بيد أن الشخص الذي يدير المكتب مازلنا في جلسات المحاكم.
رأي قانوني
من جانبها تشير القانونية منال سعد إبراهيم إلى أن عمليات النصب والاحتيال التي تتعلق بأمر الإيجارات خاصة المتعلق منها بالإخوة العرب، في بعض الحالات، يقف وراءها أشخاص متخصصون في الخداع ويلعبون على وتر حاجة اللاجئين الذين شردتهم بلادهم بعدما ساءت أوضاعهم جراء الحروبات. وأضافت الأستاذة منال أن الحذر يجب أن يكون ملازماً لكل من له نية تأجير وذلك بعدم تسليم أي مبلغ مالي أو معلومات أو أوراق لأي شخص غريب، لأن القانون لا يحمي المغفلين وحتى لو تم إلقاء القبض على المحتال فلن يعيد المال لأنه لا توجد أوراق تثبت حصوله عليه، وأكدت الأستاذة أن هذه القاعدة يجب أن يتّخذها كل شخص مقبل على شراء أي سلعة كبُرت أو صغُرت لكي لا يقع فريسة مستساغة لأصحاب الأفكار الإحتيالية.
المحتال في علم النفس
الدكتورة عزيزة عوض الكريم المختصة في علم النفس تحدثت لـ(الصيحة) حول الظاهرة وأشارت إلى أن العالم مليء بشخصيات المحتالين والمدعين، وهو يتبعنا أينما ذهبنا، فقد تجده بين أصدقائك ومعارفك، وقالت إن المحتال المريض يحاول تقليل الفروق بين الأنا المثالي المتضخم بطريقة مرضية، والجزء الآخر من أناهُ المحتقر الأدنى والمحمّل بالذنب بشكل خاص، وأضافت عزيزة أن المحتال يتصرف كما لو كان أناهُ المثالي متطابقاً معه، ويتوقع من كل فرد آخر أن يعترف بذلك، فإذا كان الصوت الداخلي لأناه المحتقر من ناحية، واستجابات العالم الخارجي من ناحية أخرى، تذكره بعدم واقعية أناه المثالي، فإنه يتعلق بالموقف النرجسي، ويحاول بيأس من خلال الادعاء، وتحت ستار إسم شخص آخـر، أن يحافظ على أناه المثالي وأن يفرضه على العالم.
يكسب بخداعه
وترى دكتورة عزيزة أن المحتال شخص ينتحل اسماً أو هوية، بغرض خداع الآخرين. إنه نوع من الكذاب المريض الذي يأمل أن يكسب من خداعه، وعلى العكس من المتباهي أو المدعي الذي يفشل في خداع الناس ويتركهم متأثّرين بإدعائه، ينجح المحتال لفترة على الأقل في إبهار ضحيته وحملها على تصديق خداعاته، وتضيف: إن لعب الدور لديه يختلف عن الأشكال الأكثر سوءاً من الادعاء والأدوار عنده هي أشكال من البراعة أو اللعب الذي يتضمن سلوكاً تكرارياً قهرياً ينشأ عن صراعات داخلية مرضية غير محلولة، فهو قد يحتال على الناس ليسلب أموالهم بعد أن يكسب ثقتهم، أو مخادع غشاش أو متورط في أفعال مضادة للمجتمع أو أفعال إجرامية، علاوة على ذلك، ينتحل عديد من الناس دور الاحتيال في أوقات معينة من حياتهم فقد يتبنى المسافرون إلى مدن بعيدة عن منازلهم أسماء وهمية، وخداعات الأخرى، ولكن المحتالين الحقيقيين يحيون حياة تجعلهم لا يحضرون للتحليل إلا إذا وقعوا في مشاكل فإذا أتوا بحثاً عن المساعدة سرعان ما يبدو أن شخصياتهم تجعلهم يستعصون على التحليل فضلاً عن العلاج، وإن عدم الأمانة، والسطحيةوعدم تحمل الإحباط والميل نحو الفعل، والميول المرضية الكامنة العميقة لديهم تميل إلى إحباط أي محاولات تبذل لمساعدتهم.
دور الضحية في عمل المحتال
كما أكدت دكتورة عزيزة أن للضحية دوراً كبيراً في مساعدة المحتال على احتياله فهي تميل لتصديقه وتعطي له هذا الإيحاء بالتصديق مما يدفعه للتمادي في غيه وفي نصب الشراك حولها واستجرار ما في جيوبها، إذ تجلس تسمعه منبهرة بأكاذيبه وادعاءاته تمجّده إجتماعياً وتستسلم له معطية إياه لعب دور المخلص والمنقذ لها من كل واقعها الأليم، والمحتال ليس بالشخص الغبي بل قبل أن يقدم على فعلته يقوم بدراسة شخصية الضحية ويزيد من أساليبه حسب المطلوب فلكل ضحية طريقتها للإيقاع بها وغالباً ما يلجأ لرمي شباكه على الناس البسطاء السذج الذين يحلمون بالطرق السحرية السريعة لحل مشاكلهم، فيقضي عليهم بذلك الجهل وقلة الوعي الثقافي والديني ولكن ذلك لا يمنع من وقوع طبقة الموسرين مادياً وهم الأكثر تعرضاً للاحتيال في شباك هذا الشخص المريض لرغبتهم بزيادة ثروتهم وجلب المزيد من الأموال فيستيقظون فجأة على كابوس أن أموالهم قد سلبت منهم وأن الشخص الملاك المعوّل عليه لتحقيق الحلم قد تبخر من أمامهم أو جلس قبالتهم يضحك على غفلتهم وسذاجتهم.
الضحية مسؤولة
من ناحيتها تشير الباحثة الاجتماعية منى الفاضل إلى أن كثيراً ما تقوم نصوص القوانين بتحميل الضحية المسؤولية لثقتها به وهنا نوع آخر من الضحايا وهم الضحايا ذوو المستوى الإجتماعي المتدني والمادي ممن لا يتفق وضعهم مع أحلامهم الواسعة العريضة وخاصة الذين يحاولون القفز مرة واحدة لأعلى درجات السلم الإجتماعي والمادي، فبلمحة عاجلة من المحتال يستشف هذه الرغبة في نفوسهم ويبدأ بنسج الأكاذيب لهم ورسم الأحلام والحلول السحرية التي تجلعهم يحلقون في الهواء متوقعين تغيير واقعهم المر بين ليلة وضحاها، وتبدأ رحلة الاحتيال فيستنزف ما في جيوبهم من مدخرات بسيطة الجنيه تلو الجنيه، حتى ينبت جناحاه ويطير في المجهول تاركاً إياهم يندبون حظهم العاثر الذي أوقعهم في حباله، وأضافت عزيزة: ان هناك نوعاً من المحتالين يوافقه نوع من الضحايا بأن فائدته فقط قد تكون معنوية يمارس عليهم تخيلاته المرضية فتارة هو ذو مؤهل علمي عالٍ، وتارة ذو منصب كبير، وتارة رجل أعمال يجوب العالم وقد يكون البعد الجغرافي مساعداً له على تصديق أكاذيبه وربما في رحلاته هذه وغيابه كان يقضي أحكاماً بالسجن جراء احتياله ونصبه وإن كنا نقول لا يجني منهم مالاً فماذا يقصد إذن؟ إنه يجني فائدة معنوية للأنا المتدنية لديه ويحاول خداع نفسه والرفع من قدراته النفسية.
تحقيق: تيسير الريح
صحيفة الصيحة