منوعات

النغم الممنوع في الكلام غير المسموع

من فقه مولانا الأسير الإمام

أبي بلال عبد الله الحامد ..

لماذا لا نكاد نزكي، ولا نكاد نتصدق، إلا في رمضان؟

تفطير صائم وبضعة أسئلة؟

شهر رمضان الكريم موسم من مواسم الطاعة والعبادة، تضاعف فيه الحسنات، يفتح الله فيه أبواب الاستجابة والقبول، فهو موسم يشحن طاقة المؤمن بقابس آخر، هو قابس الصوم، فيشحذ الهمم إلى طلب البر والتقوى، ويهيئ الله فيه لعباده فرصًا من الرحمة، تفتح أبواب التوبة للعائدين، والمغفرة للمستغفرين، الذين يستثمرون بركة الزمان لبركة المكان، كما ورد في الحديث «إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء، وأغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين»[3] وفي رواية أخرى «فتحت أبواب الرحمة».

في شهر رمضان ينشط الناس للبذل والعطاء؛ لأن روحانية رمضان، تشعر الصائم بما للآخرين المحتاجين من حقوق، في البر والصدقة والزكاة، وسائر أنواع التكافل والتعاون، ولكن هذه الصورة المشرقة من العطاء والبذل، عندما نتأملها من خلال منظار الشريعة، نجد فيها خمولًا وسكونًا تارة، وخللًا وجهلًا تارة أخرى.

على خلاف مع الكثيرين ممن يعيشون فكر المؤامرة، يرى «أبو بلال عبد الله الحامد» أن العجز الداخلي هو من مكن المعتدي الخارجي من امتطاء ظهرنا؛ إذ يذهب الإمام الحامد إلى أن «الحضارة الغربية، لم تغزنا اليوم، إلا بسبب هشاشة نظامنا التربوي».

يرى الإمام الحامد أن المنظومة التربوية الإسلامية تعاني هشاشة نظامها العام، ويتمثل ذلك ـ حسب رأيه ـ

لا يرتب الأولويات في الصدقات.

في كثير من ممارساتنا للعبادة الروحية، نترك العبادة الفاعلة إلى العبادة الخاملة، فتكون العبادة في ظاهرها صحيحة، ولكن صحتها مسألة شكلية؛ لأنها وقفت عند مستوى الطقوس، فأنتجت أفرادًا وجماعات، هزيلة في كل مستوى.

ا- لماذا لا نزكي في غير رمضان؟

كثير من الأغنياء يوقّتون أداء زكاتهم في رمضان، فإذا جاءهم طالب زكاة في غيره، قالوا: تعال في رمضان، ويبدو أن هذه العادة الموسمية، تحولت إلى نوع من العبادة الشرعية.

إذ إن كثيرًا من الناس، يفهم الآثار التي وردت في الحث على الصدقة في رمضان، على أنها تضاعف أجر الزكاة في رمضان أيضًاً، اعتماداً على مثل ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل «أي الصدقة أفضل؟» قال «صدقة في رمضان»[4]، وهذا ليس على إطلاقه.

وإنما يختل فقه بعض الغافلين عن الشريعة لأسباب منها:

الغفلة عن مقاصد التشريع (وهي غفلة في التصور للموضوع)
وعن الجمع بين النصوص (وهي غفلة منهجية).

ثم يعلل د. الحامد مذهبه في بيان الخلل في الميزان الشرعي فيقول: على الرغم من صحة الأحاديث التي تنص على مضاعفة أجور الأعمال الحسنة في رمضان، بما فيها الصدقة والزكاة، فقد أغفلنا فهمها فهمًا كليًا، في إطار الوحدة العضوية للشريعة، والجمع بين النصوص، ودون هذا وذاك لا يمكن وضع النصوص المفصلة في مكانها المناسب من الصورة الكلية، بحيث يدور معنى النص مع وظيفته العضوية، بصفة الشريعة جسمًا متكاملًا، ومن خلال مقاصد الشريعة الكلية، يمكن أن نلاحظ أمرين:
الأول: أن أداء الزكاة مرتبط بتمام الحول، على المال المزكى.

فهو أداء واجب تطلب فيه براءة الذمة، وليس عملًا تطوعًا، يبحث فيه عن فضل الوقت أو المكان.
الثاني: أن فضل الصدقة مرتبط بحدوث الحاجة، فحيث نزلت الحاجة، تكون الأفضلية.

وقد يقول بعض الناس، إن تمام الحول على ماله هو رمضان، وهذا كلام مقبول، لو كان الذين يوقتون إيتاء الزكاة في رمضان، حوالي 8% من الناس، أي على افتراض أن تمام الحول، يكون عند بعضهم في رمضان وعند بعض في صفر، وهكذا دواليك، خلال اثني عشر شهرًا.

ولكن غالب الناس يحصر صرف الزكاة في رمضان، اعتقادًا منه بأن دفع الزكاة في رمضان أفضل.

والقول بالأفضلية يرجع إلى اعتبارات عديدة: فإن كانت الأفضلية للزمان فنعم، لكن دفع الزكاة واجب، وليس هناك إذن مزيد أجر، لمن قام بالواجب في رمضان، على من قام به في شعبان.

وإن كان الإنسان أخر زكاته بعد تمام حولها، لينال فضل الزكاة في رمضان، فهذا جهل بالدين، يؤخر فيه الإنسان أداء الواجب عن وقته الشرعي المفروض، بحثا عن مزيد من الثواب.

وإن كان قدّمها إلى رمضان، مراعاة لحوائج الفقراء في هذا الشهر، فقد أصاب السنة والأفضلية.

إن الاستشهاد بالآيات والأحاديث، لا يكون بعزل النص عن سياقه العام، من أجل ذلك ينبغي أن نذكر ببعض الإشكالات، الناتجة عن جعل الناس رمضان موسمًا مركزيًا، يصرفون فيه زكواتهم وصدقاتهم، مع التذكير بضرورة تجديد فقه الزكاة في المجتمع الحديث، الذي كثرت فيه النوازل والمتغيرات، وذلك يدعو إلى مراعاة المقاصد الشرعية، بربط العمل بالجدوى والنية بالنتيجة، ولا بد من فهم أفضلية المكان أو الزمان، من خلال ربطها بحاجة الإنسان، فإذا كان الفقير أحوج إلى المال في شهر صفر، منه إليه في رمضان، فالإنفاق في صفر هو الواجب، وليس الأولى فحسب.

إن للفقراء حوائج موسمية، صارت مرتبطة بالتقويم الشمسي، فالأسرة الفقيرة – في بداية الموسم الدراسي -، بحاجة إلى مصروفات، تعين على تعليم البنين والبنات، وفي الشتاء بحاجة إلى أكسية وأغطية، تقي من البرد القارس، وكثير من الفقراء لا يجيدون الادخار، فيبددون ما يصل إلى أيديهم في رمضان، فلا يحل صفر إلا وقد صفرت أيديهم.

والأسر أيضًا بحاجة إلى شراء المساكن، وتسديد فواتير الكهرباء والماء ونحوها وغيرها، وهذه الأمور مؤقتة بالتقويم الشمسي أو القمري، ولا بد من مراعاة هذا وذاك.

إن نمط الحياة الاجتماعية المستقرة، صار يدعو إلى طرح أسئلة جديدة:

أليس من الأفضل أن يوقت المزكي ميعاد زكاته على هذه الأوقات؟

أم أننا سنظل نفهم أحاديث الفضائل، دون ربط لها بالصورة العامة لاحتياج الناس؟

ودون مراعاة مبادئ الاقتصاد، الذي يربط الوسائل بالغايات، والأفضلية بالاحتياجات، في أي وقت من الأوقات.

ب= تفطير الصائم وبضعة أسئلة:

إذا جاء رمضان وجدت إعلانات ولافتات، في الصحف والطرقات، عن إفطار الصائمين وما فيه من الأجر العظيم، اعتمادًا على حديث الحث على التفطير عن زيد بن خالد الجهني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من فطر صائمًا فله مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا»[5].

ولا ريب أن في تفطير الصائمين من خصال البر، وفيه شيء من التآلف والتراحم، ولا سيما إذا كان للغرباء والمسافرين.

ولكن فقه الحديث، فضلًا عن تطبيقه، لا يكون بمعزل عن القاعدتين اللتين ذكرنا:

الجمع بين النصوص.
رعاية المقاصد الكلية، عند فقه أو تطبيق الجزئية.

وميزان هذا الأمر واحد، هو كليات الشريعة ومقاصدها، لمعرفة مناط التكليف، من خلال فهم الشريعة، باعتبارها نسقًا متكاملًا، يفسر بعضه بعضًا، وفضل كل جزء فيه بحسب وظيفته، وذلك يدعو إلى الربط بين الجهد والجدوى، وذلك يعني تفريع الجزئيات على الكليات؛ لأن النصوص الجزئية تدور حول قطب النصوص الكلية، ومراعاة توصيل الأعمال إلى الأهداف.

فإفطار الصائم جزء من وحدة التكافل بين المسلمين، وهذا الصائم الذي يُنال الأجر بتفطيره، إنسان له صفات خاصة، كأن يكون فقيرًا ينسد جوعه أو ضعيفًا أو مريضًا منقطعًا تؤلف عاطفته أو مسافرًا لا زاد معه، وليست المسألة إذن إطعام أي إنسان، وإن كان ثريًا غنيًا، وهذا الإفطار ينبغي أن يكون دون إسراف.

فإذا مددنا الطرف، رأينا موائد كبارًا، موضوعة على «الأسمطة»، في باحات المساجد، فيها أطعمة متنوعة، يأكل منها أناس مختلفون، فيهم الفقير ذو الجسد الضامر، الذي نحل من الجوع والبؤس، والضخم البدين الذي لا يكاد يدخل الباب، إلا بمشقة.

فهل تطبيق نظام الأولويات والموازنات، يجعل لذلك أولية؟

ومفهوم الحديث أدق من منطوقه، فالناس يهتمون بإفطار الصائم، ويقصرون الحديث عليه، وليس الفطور بأولى من السحور، ولا يصح التفريق بين متماثلين، إلا بدليل.

وهل يحصر إفطار الصائم بمثل هذا الخوان المبسوط في المسجد؟

وهل ينال الأجر بتفطير الأقوياء المكتسبين؟

وهل الأجر محصور بتقديم الطعام؟

أو ليس الأولى دفع المال مباشرة للمحتاج، ليفطر مع أهل بيته؟

أيفطر المرء أناسا أقوياء مكتسبين، ويدع جارته التي تحتاج إلى من يسدد عنها فاتورة الكهرباء أو العلاج أو الطعام؟

ووضع هذه الموائد في المساجد؛ مسألة أخرى مشكلة، لا نريد أن نذمها بمصطلحات البدعة ونحوها، ولكنها لو كانت أولى لفعلها الصحابة الكرام، فتحويل ساحة المسجد إلى (مطعم) مسألة فيها نظر؛ لأن المساجد أمكنة عبادة روحية واجتماعية وسياسية، ينبغي أن يكون هواؤها صحيًا، وأن تكون فرشها نظيفة، وقد قال الله لنا: «خذوا زينتكم عند كل مسجد»، وندب المسلم، ولا سيما إذا كانت حرفته يدوية، إلى الاغتسال قبل صلاة الجمعة؛ من أجل تحقيق هذه النظافة. والناس يضيقون بالروائح الكريهة، من الدهان والسباك والمدخن، فما بالك بروائح اللحوم والدهون، والتوابل وقتار الخبز، وهي تنبعث من ساحة المسجد. إن باحات المساجد ليست مطاعم، وهناك أساليب عديدة، لتفطير الصائمين في المطاعم أو في البيوت.
د- عشاء الوالدين المتوفين:

ومثل ذلك (عشاء الوالدين)، الذي توارثه الأحفاد عن الأجداد، في العصور السوالف، وأصبح عادة متبعة، في كل رمضان، توحي بنشوء بدعة سائدة؛ لأن استحسان عمل من المندوبات الشرعية، وربطه بزمن أو بمكان دون مستند في الشريعة، أمر يخرج عن البدعة الحسنة، إلى البدعة السيئة، ولو كان هذا العشاء مشروعًا، لما فات الصحابة ولا التابعين.

ترى أليس باب الصدقة عن الوالدين مفتوح الأوقات والمجالات؟

وفي الحياة المعاصرة عشرات الأنماط، التي يمكن أن يسلكها المتصدق عن نفسه أو عن والديه.

ويختم د. الحامد رؤيته فيقول: نحن المسلمين نملك طاقات كبيرة من الرغبة في الخير، وأرقامًا هائلة من المال، ولكننا نسيء توظيفها، أو لا نرتب الأولويات، والأدهى من إساءة التوظيف أو الإخلال بالأولويات، أن نبرر غفلتنا تبريرًا دينيًا، فنعتبرها بحثًا عن الدار الآخرة، وكأن طلب الآخرة محصور بهذه التصرفات، فنضيّع كثيرًا من الطاقات هدرًا، كالماء الذي يساق إلى نقر الرمال، فلا هو بقي في جوف الأرض مخزونًا مكنوزًا، لمن يحسن استثماره، ولا هو أنتج ثمرًا بقدر ما أنفق فيه من جهد مالي أو بدني.

ساسة بوست